الأولاد اليمنيين المختطفين: ما وراء ال-322 صفحة لتقرير لجنة التحقيق الرسمية

لماذا رافقت عمل لجنة التحقيق الرسمية بقضية اختطاف الاولاد اليمنيين أراشيف مدمرة، شهاد مهددين ومستندات سرية لأجيال.. وأيضاً شعور بأن احدا ما قال “يللا، تعالوا لننهي هذا الأمر ونعود الى البيت؟”. هذا سؤال يجب ان يقض مضجعنا في الحيز العام بلا توقف.
ياعيل تسادوك-صالح

 

قضية الاولاد اليمنيين بدأت مع اختفاء أطفال من ابناء القادمين الجدد الى إسرائيل، بالأساس من اليمن، بين السنوات 1954-1948. في حين قيل للأهالي بأن أطفالهم قد توفوا، يؤكد الكثير منهم بأن اولادهم أخذوا منهم بشكل مدبر. ملابسات القضية انضمت للاستياء الذي ساد بين القادمين آنذاك ازاء المعاملة التمييزية والعنصرية تجاههم من قبل الحكم. حيث يعتقد بأن الاولاد أخذوا من عائلاتهم لتقوم بتبنيهم عائلات “لائقة أكثر” تقدم لهم تربية أفضل.

في مركز القضية وقف موضوع خطير، على ما يبدو، يتعلق بالعلاقات الطائفية وبالعنصرية اليهودية-الطائفية، وهي المسألة التي تعتبر بمثابة منديل أحمر بنظر الكثير من الإسرائيليين

14 سنة مضت منذ ان نشرت لجنة التحقيق الرسمية بقضية الأولاد اليمنيين استنتاجاتها. ناتجها النهائي كان تقريراً من 322 صفحة مآلها: لم يكن هناك أية عمليات اختطاف متعمدة، أما هذه فقد اختلقت فقط من عقول أناس لا يميزون بين الخيال والواقع. لكن هذه القصة لم تمر على الأهالي. في 4 نوفمبر 2001، خلال ساعات قليلة من الاعلان عن نتائج التقرير، نشر على موقع “ولله” حوالي ال- 80 تعقيب، تعبر غالبيتها الكبيرة عن غضب وعدم ثقة باللجنة. صحافيين وباحثين كثر قرؤوا التقرير وتحفظوا منه أيضاً. تقرير لجنة التحقيق هو بالفعل متقاعس ومليء بالتناقضات- وهذا بدوره شيء مثير للتسائل فليس من المؤكد بأنه كان سيمر مر الكرام بأية لجنة تحقيق أخرى.

لكن للجنة التحقيق هذه كانت هناك مكانة خاصة: فقد كانت لجنة تحقيق صورية، أمل أشخاص كثر- منهم من كانت تربطه علاقة بالحكم في سنوات الخمسين- بأن تنهي عملها بلا شيء: في مركزها وقف موضوع خطير، على ما يبدو، يتعلق بالعلاقات الطائفية وبالعنصرية اليهودية-الطائفية، وهي المسألة التي تعتبر بمثابة منديل أحمر بنظر الكثير من الإسرائيليين: كما أنها تتعلق بشريحة سكانية مستضعفة، غير منظمة، لا موارد لديها ومن السهل الاستهتار بها. كل هذه العوامل أدت الى وضع تقوم به لجنة تحقيق رسمية بنشر تقرير مغرض، متقاعس ومستهتر لا ينطوي على أي منطق قانوني عدا عن كونه مليء بالتناقضات المثيرة للتسائل.

استهتار أعضاء اللجنة بالأهالي كان جلياً وفظاً. القاضي كوهين (الرئيس الأول للجنة) قال بأنه “يتطرق فقط لمقدمي الشكاوي ال-400 الاوائل لأن الآخرين (أي ابناء العائلات الأخرى) ربما أصيبوا بعدوى من الأوائل”. أما القاضي كدمي (الرئيس الذي استبدله) فإدعى بأن الشهادات التي قدمها الأهالي كانت عبارة عن “انطباعات متأخرة”، وكأن ضحايا عمليات الاختطاف هم مجموعة من قليلي العقل اللذين اختلقوا القصص من وحي خيالهم.

معسكر القادمين “عين شيمر”، 9 سبتمبر 1950.

 

تعامل اللجنة مع الأهالي كمغفلين خالصين يعيد الى الذاكرة التعامل الذي لاقوه في سنوات الخمسين، وكأنه لم تمر منذ ذلك الحين 60 سنة. في المقابلات التي أجريتها مع الأهالي اللذين اختطف أولادهم، تحكي ساره “ع” أن الممرضة أحضرت لها وليدها مباشرةً بعد الولادة، وقد كان ولداً سليماُ، وزنه ثلاثة كيلو ونصف، كما أنها سمعته وهو يبكي بعد ذلك. لم تمر دقائق حتى دخل عليها الطبيب ووبخها قائلاً بأنها “فتاة سيئة! لقد ضغطتي على الطفل بقوة وقتلتيه”(!). بال-1950 تعامل الطبيب مع “ع” كإمرأة معاقة لا تفهم شيئاً بهذه الحياة، و-60 سنة بعد ذلك أيضاً القضاة كوهين وكدمي تعاملوا مع الأهالي بنفس الطريقة.

على فكرة، على الرغم من تضرعات سارة فهي لم تحظى برؤية طفلها بعد ذلك. ولد سليم، وزنه ثلاثة كيلو ونصف.

أيضاً الجزءان المخصصان للتقارير الشخصية للعائلات يظهران استهتاراً واضحاً بشهادات الأهالي. هكذا، على سبيل المثال، شهدت مريم الحديف بأنها رأت ابنها بعد الولادة بينما في المستند الذي وجدته اللجنة يقال بأن ابنها “مات عند ولادته”. اللجنة فضلت قبول تسجيل الطبيب على شهادة الأم. أيضاً طفل راحيل شرعابي “ولد ميتاً” كما سجل احد العاملين في المستشفى. لكن راحيل شهدت بأنها أرضعت ابنها ليومين. هل يعتقد أحد حقاً بأن راحيل شرعابي لا تتذكر اذا ما كانت قد أرضعت ابنها بعد ولادته أم لا؟!. نعم، اللجنة قررت بأن تسجيل المستشفى مقبول عليها أكثر من شهادة الأم (!).

الادعاء المركزي للجنة يقول بأنه حتى بالحالات التي أرسل فيها الاولاد للتبني فإن ذلك حصل فقط حين “تعذر ايجاد الأهالي”… أين بالضبط لم يجدوا الأهالي، بالغابات الشائكة لمعسكر القادمين ام بأدغال غرف الولادة؟.

رغبة اللجنة بالتخلص من الأهالي وإسدال الستار على القضية كانت قوية لدرجة انها سارعت لدفن أكبر عدد من الاولاد وللإقرار بأنهم “ماتوا”، ولو أنها لم تتيقن من ذلك بحق. عن ولد أخذ من المستشفى بالليل بواسطة شاحنة نقلت أولاداً آخرين، تكتب اللجنة بأن هناك “احتمال كبير” بأنه توفي. وعن ولد آخر اختفى بينما كان يتجول مع أمه في معسكر (القادمين الجدد)، تكتب بأن “هناك مكان للافتراض بأن مجهول الهوية الذي دفن.. هو المفقود”، لذلك بالإمكان القول بأن هناك “إحتمال كبير” بأن الولد توفي. “الإحتمال” هذا يتصدر رسائل كثيرة من تلك التي بعثت للعائلات. هكذا شطبت اللجنة من أمامها قائمة طويلة من الاولاد اللذين يعتقد بأنهم اختطفوا، وكأنها تقول شيئاً من هذا القبيل: “يللا، ولننهي هذا الأمر ونعود الى البيت”(!).

في أدغال غرف الولادة

الادعاء المركزي للجنة يقول بأنه حتى بالحالات التي أرسل فيها الاولاد للتبني فإن ذلك حصل فقط حين “تعذر ايجاد الأهالي”. هذا ادعاء سخيف بالطبع لأن اللجنة نفسها وجدت سجلات مرتبة جداً في المستشفيات: الاسم ورقم هوية القادم (الجديد) او البطاقة الداخلية بمعسكر القادمين. حتى لو كانت هناك بعض التفاصيل الناقصة او غير الواضحة (مع العلم بأن جزء من الاولاد اللذين اختطفوا ولدوا للتو)، أين بالضبط لم يجدوا الأهالي، بالغابات الشائكة لمعسكر القادمين ام بأدغال غرف الولادة؟.

هذه هي النقطة: على الرغم من تصميم اللجنة على الادعاء بأنه “تعذر ايجاد الأهالي”، وعلى قبر القضية بشكل نهائي وكامل، فقد تم كشف النقاب عن أمور عدة تثير شك حول وجود ظاهرة واسعة من اختطاف الأولاد (آنذاك). فاللجنة وجدت، كما ذكر سابقاً وخلافاً لنظرية “الفوضى”، بأن الاولاد سجلوا بالمستشفيات بكافة تفاصيلهم الشخصية بحيث لم تكن هناك مشكلة في إعادتهم الى أهاليهم في المعسكر: بأن بعض العاملين في المستشفيات قاموا بمحو تفاصيل شخصية لأولاد وأعلنوا عنهم كأولاد “مهجورين”: بأنه، وفي بعض الأحيان، أخرج الاولاد من المعسكر منذ البداية دون تفاصيلهم المعرفة: بأن أعضاء في الكيبوتسات قاموا بتبني أولاد مباشرة من المستشفى دون اية اجراءات رسمية: أمام هذه المعطيات، هناك شك بأنه تواجدت هنا منظومة كاملة لاختطاف الاطفال بسنوات الخمسين.

دعور للتصويت للكنيست ال-14 وصلت الى عنوان أهل احد الاولاد بعد 20 عاماً من إختفائه، صورة من فيلم لتسيبي تلمور.
دعور للتصويت للكنيست ال-14 وصلت الى عنوان أهل احد الاولاد بعد 20 عاماً من إختفائه، صورة من فيلم لتسيبي تلمور.

 

لكن الأمر الأخطر الذي اتضح بأنه كانت هناك أيادي مجهولة خلال فترة عمل اللجنة (وربما قبل ذلك أيضاً) اهتمت بإخفاء المعلومات، المستندات والشهادات، على ما يبدو لمحو آثار الأعمال المشبوهة. بشكل مفاجئ تعاملت اللجنة مع هذه الأحداث بتسامح متهاون. هكذا، على سبيل المثال، فور مباشرة اللجنة لعملها، تم تدمير أراشيف لها صلة بالقضية (اللجنة لم تبذل أي جهد لتستوضح من قام بذلك): مكاتب حكومية رفضت ان تسلمها مواد (واللجنة لم تجبرها على ذلك): شهاد تلووا من على المنصة بعدم راحة وقالوا بأنه تم تهديدهم لكي لا يقولوا الحقيقة (اللجنة لم تفحص من الذي هددهم): ورئيس اللجنة الأول، القاضي كوهين، وجد مجموعة من شهادات الولادة وشهادات الوفاة الخالية من التفاصيل الشخصية والموقعة مسبقاً. في كل زاوية بدى بأن هناك أيادي سرية تخفي المستندات، تكتم الشهادات وتتستر على الأدلة. أعضاء اللجنة رؤوا وسمعوا ولم ينبسوا بكلمة.

عدا عن ذلك فقد كانت هناك شهادات قدمت للجنة بجلسات مغلقة، بموافقتها وبدون تبريرات كافية، من بينها شهادة المسؤول عن أرشيف تسجيلات التبني في وزارة الداخلية، شهادة روت باروخ التي كانت مسؤولة عن عمليات التبني في الكيبوتسات بسنوات الخمسين، وشهادة عاموس مانور رئيس الشاباك بتلك السنوات. لماذا قدمت هذه الشهادات بسرية؟ وما العلاقة بين اختفاء الأولاء وبين الشؤون الأمنية لدولة إسرائيل؟. الأخطر من ذلك بأن مواد التحقيق الهامة أعلنت كمستندات محمية لسبعين سنة وأغلق المجال أمام الجمهور للإطلاع عليها. لهذا، اذا طلبتم قراءة شهادة المسؤولة عن مجال تسجيل السكان بسنوات الخمسين، يهوديت هيبنير، سيقولوا لكم في أرشيف الدولة بأن جزء من شهادتها مغلق أمام الجمهور حتى عام 2066، كما أجابوا شوش زايد التي تبحث في القضية. هذه الحماية تثير الشك حول مدى أمانة اللجنة، فإذا كانت هذه تدعي بأنه لم تكن هناك عمليات اختطاف لأولاد بسنوات الخمسين، ما هو الشيء الذي من الممنوع ان نعرفه حتى الآن؟ ماذا ومن تحاول ان تحمي بذلك؟ ومن هي الأيادي التي تخفي عنا المستندات والشهادات؟. بهذه الظروف، من الطبيعي بأن يكون الانطباع بأن شيئاً خطيراً يستتر تحت غطاء التكذيب.

من الأسهل الاعتراف بمذبحة كفر قاسم

اختطاف اولاد من أهالي “غير لائقين” وتسليمهم او بيعهم لأهالي آخرين هو ليس اختراعاً إسرائيلياً. هذه ممارسة معروفة تمت بنفس الفترة بأماكن كثيرة بالعالم. ابتدءاً من سنوات الأربعين من القرن الماضي تم بيع آلاف الأطفال في أسبانيا من خلال أكاذيب وتزييف مستندات: حكومة اسبانيا أقامت وحدة خاصة لإدارة التحقيق: في الأرجنتين، بعهد الزمرة العسكرية، اختطف حوالي 400 طفل وأعطيوا لأهالي “لائقين أكثر” بعيون الحكم: الارجنتين نظمت بمرحلة لاحقة شهادات علنية ومحاسبة للذات: في ايرلندا، بيع آلاف الأطفال المختطفين لعائلات أمريكية: وفي استراليا اختطف حوالي 100 ألف ولد من السكان الأصليين.

نحن مجتمع ندفن في بطننا سر مظلم وفظيع، سر مخيف لدرجة انه مكتوم منذ ستون سنة وتريد له الدولة ان يبقى هكذا حتى سنة 2066.

مثلنا مثل البقية اذاً. “الأخلاق اليهودية” التي يحلو للبعض التغني بها خرجت بسنوات الخمسين في إجازة طويلة، وربما لم تعد الى البيت حتى اللحظة: ففي حين تحظى هذه القضايا بتلك الدول بالإنتشار، الاعتراف بالذنب والإقرار الجماهيري بالضحايا، تستمر الدولة في إسرائيل بالإنكار بأنه كان هناك اختطاف من الأساس. بالإمكان فهم الخوف من انتشار القضية، فاذا ما تم الكشف بأنه كان هناك اختطاف ممنهج للأطفال، من الممكن بأن يقوض ذلك روح الجماعة المركزية لدولة إسرائيل وعنوانها: اليهود هم الناجين من العنصرية وضحاياها الأبرز، ودولة إسرائيل هي المكان\الملجأ الآمن لكل يهودي. اختطاف اولاد يهود بيد يهود آخرين في دولة اليهود، دقيقتين بعد ان أقيمت، وعلى خلفية عنصرية، هي اذاً فكرة غير محتملة. من الأسهل بكثير، ولنقل، الاعتراف بمذبحة كفر قاسم. من المخيف الكشف بالأساس عن العنصرية الفظة التي سادت آنذاك تجاه يهود الشرق، بما يشمل القادمين من اليمن اللذين أخذ اولادهم منهم. اليمنيين- الذين اعتدنا ان نفكر بأنهم “لطيفين”- وصفوا بالصحافة بتلك الفترة ك”أبناء القرن ال-11″، كعديمي أي معرفة حول العناية بالأولاد وكمن يجب تعليمهم مبادئ أساسية في النظافة: قالوا عنهم بأنهم لا يتركوا طعاماً لأولادهم، بأنهم لا يكترثون اذا ما مات طفلهم بل يسرعون ل”صناعة واحد جديد”. هذه الوسوم اتاحت المجال لأخذ أولادهم منهم وإعطائهم لأهالي “لائقين أكثر”. قضية الاولاد اليمينيين تنطوي اذاً على فترة غير مطرية بالمرة في تاريخ دولة إسرائيل.

لجنة التحقيق الرسمية حاولت بكل قوتها ان تطأطئ القضية تحت البساط على أمل بأن تختنق الضحية وتحررنا أخيراً من الفضيحة والذنب. لا اؤمن بأن ذلك سينجح: آمل بأن يكون هناك اناس شجعان ليقوموا ويكشفوا الحقيقة. بالوقت الحالي، نحن مجتمع ندفن في بطننا سر مظلم وفظيع، سر مخيف لدرجة انه مكتوم منذ ستون سنة وتريد له الدولة ان يبقى هكذا حتى سنة 2066، عندها ربما تزال الحماية عن المستندات السرية. السؤال المثير هو أين القادة من كل هذا، المثقفين، الربانيم، المفكرين، الفنانين، الصحافيين؟. الاعلام بغالبيته ساعد الحكم على كتم القضية، ونحن نعرف هذا. لقد خان دوره بانتقاد الحكم بشجاعة واستقامة، وبحراسة حقوق الفرد. معظم وسائل الاعلام لم تتابع عمل اللجنة وبالطبع لم تنتقده ولم تقرأ التقرير او تهتم به. برامج تلفزيونية ومقالات بالصحف دعمت نتائج التقرير (غالباً دون ان تتطلع عليه)، واتهمت الأهالي مقدمي الشكاوى ووبختهم. د. شوش مدموني-جربير بحثت بهذا السياق وكتبت عنه بتوسع في كتابها “Israeli Media and the Framing of Internal Conflict” (متوفر بالانجليزية فقط حتى الآن).

وماذا عن كل البقية؟ كيف حصل بأن أحداً لم يحرك ساكناً؟. سيأتي يوم ويقوم التاريخ بالحكم على من تعاونوا مع الحكم للتستر على هذه القضية، من أسكتوا الأهالي المعذبين بدل ان يحققوا في شهاداتهم، من اتهموا الضحايا واستهتروا بهم، كل الحساسين لحقوق المواطن اللذين وقفوا جانباً بهذه الحالة ولم ينطقوا بكلمة، من رفضوا الانصات للألم والغضب.

صحافية

(*نشر التقرير بموقع “اللسعة” باللغة العبرية بتاريخ 15.1.15، ونعيد نشره الآن بالعربية مع مرور عام آخر على تقرير لجنة التحقيق الرسمية بحلول يناير 2016).

 

التعليقات

 

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.