لماذا لا يتقن اليهود العربية

بالنسبة للمثقفين اليهود اللذين ولدوا في البلاد، العربية كانت لغة المكان ذلك عدا عن أنها حظيت بمكانة خاصة في الفكر والانتاج اليهودي طوال مئات السنين. كيف حدث اذاً بأن غالبية اليهود في إسرائيل اليوم لا يتقنون العربية؟
يوفال عبري

 

في كانون أول 1920، نظم رئيس بلدية القدس، راغب النشاشيبي، حدثاً كبيراً على شرف المندوب البريطاني هربرت صموئيل. عندما قام بدعوة بروفيسور ابراهم شالوم يهودا لتقديم محاضرة بالحدث، لم تكن هناك حاجة للتوضيح بأن المحاضرة ستقدم باللغة العربية. بالنسبة لكلاهما، وهما أبناء لعائلات مقدسية عريقة، واحدة عربية مسلمة والثانية عربية يهودية، العربية كانت لغة المكان. هذه كانت اللغة التي أنتج، تحدث، تاجر، وتناقش بها أبناء كل الديانات.

 “أنت- الرحال الأزلي- تذهب الى فرنسا وتتعلم الفرنسية، لألمانيا وتتعلم الألمانية، تذهب لأمريكا وتتعلم الإنجليزية، لماذا اذاً عندما تريد الدخول لفلسطين- وهي أغلى من كل تلك الدول- لا تتعلم العربية، لغة شعب البلاد الذي تلتقي به يوماً بيوم؟”

العربية اعتبرت كلغة المكان أيضاً وسط أناس الحركة الصهيونية اللذين عملوا على إحياء اللغة العبرية. يوسف ميوحاس ودافيد يالين، من مؤسسي لجنة اللغة العبرية والتربية العبرية بأرض إسرائيل، لم يتخيلوا بأن مشروعهم لإحياء العبرية سيستخدم يوماً لإقصاء مكانة العربية. ميوحاس ترجم عشرات القصص والأمثال من العربية للعبرية. وقد صرح عام 1895 لصحيفة “هحفتسيليت” بأنه “كلما تتبعنا جذور الشعب العربي، ميزته، لغته وأدبه، كلما إكتشفنا شعب إسرائيل وأسرار لغته أكثر”. أما يالين فخطب في المحافل والمؤتمرات بالعربية، ودرس العبرية بمدرسة دينية للمعلمين في القدس. الصلة بين العربية والعبرية تعود أيضاً للمكانة التي حظيت بها العربية في الفكر والإنتاج اليهودي طوال مئات السنوات.

هذا الموقف أثار انتقاداً شديداً بتلك الفترة من قبل مثقفين من مواليد البلاد. هؤلاء نظروا الى استعلاء المهاجرين الجدد على العربية، تقويضاً لمكانتهم السياسية والثقافية هم بأنفسهم. المعادلة بدت لهم واضحة: الاستهتار بالعربية معناه الاستهتار بتاريخ البلاد وبتاريخ سكانها العرب. يوسف دافيد ممان وصف ذلك خلال نقاش مع مثقفين أشكنازيم على النحو التالي: “أنت- الرحال الأزلي- تذهب الى فرنسا وتتعلم الفرنسية، لألمانيا وتتعلم الألمانية، تذهب لأمريكا وتتعلم الإنجليزية، لماذا اذاً عندما تريد الدخول لفلسطين- وهي أغلى من كل تلك الدول- لا تتعلم العربية، لغة شعب البلاد الذي تلتقي به يوماً بيوم؟”.في بداية القرن ال-20، مع توسع هجرة اليهود من اوروبا لأرض إسرائيل ونمو القومية العبرية والعربية، تقوض نسيج العلاقات الرقيق بين اليهود والعرب في البلاد وبين العبرية والعربية. جذور اللغة العبرية التي أحضرها المهاجرين معهم ارتبطت بدوائر النهضة العبرية بشرق اوروبا، واعتمدت بالأساس على العلاقة مع الايدش والروسية، على خلاف إحياء العبرية بإسرائيل الذي اعتمد على العلاقة مع العربية. العربية اعتبرت بنظر الكثير منهم لغة غريبة وعديمة الفائدة للسكان المحليين، عرباً ويهوداً، ولم يكتسبوها كلغة يومية.

two palestinians before the nakba

عدا عن ذلك، فقد رأى هؤلاء بأن للعربية مكانة خاصة بالتاريخ اليهودي، وبأنه فقط عن طريق التواصل معها سيكون بالإمكان انشاء ثقافة عبرية قومية بأرض إسرائيل. في مقالة لصحيفة “هحيروت” من عام 1913، كتب د.نسيم مالول: “اذا كنا نسعى نحن، ورثاء الراب يهودا هليفي والرمبام، بأن نحذو حذوهم، فعلينا ان نعرف اللغة العربية ملياً وان نمتزج مع العرب كما كانوا هم ليفعلوا. كشعب سامي علينا ان نؤسس قوميتنا السامية لا أن نطمسها بالثقافة الأوروبية، وعن طريق العربية سيكون بإمكاننا انشاء ثقافة عبرية بحق”.

آراء شبيهة قدمت (بالعربية) من قبل ابراهم شالوم يهودا بتلك الليلة الشتائية بأواخر ال-1920، أمام جمهور من المثقفين والشخصيات الاعتبارية المسلمة، المسيحية واليهودية التي لم تكن بحاجة لترجمة بغالبيتها. حيث قام حينها بوصف الفترة الذهبية للثقافة العربية بأسبانيا، الانجازات بالعلم والتخطيط المعماري والشعر، وازدهار الثقافة اليهودية الى جانبها.. في نهاية كلامه، دعى القادة الفلسطينيين واليهود لإنشاء حداثة شرقية تقف بمركزها ثقافة عربية-عبرية مشتركة. الرؤيا لم تتحقق، وعوضاً عن ثقافة مشتركة ارتفع الجدار بين اليهود والفلسطينيين وبين العربية والعبرية.

قبل عدة أشهر عرض بروفيسور يهودا شنهاف خلال محاضرة ألقاها بالعربية في جامعة تل أبيب تقريراً أعده مع باحثين آخرين حول معرفة العربية بين اليهود في إسرائيل. الكثير ممن تواجدوا بالقاعة كانوا بحاجة لترجمة لكي يستوعبوا المعطيات المقلقة: قلائل هم اليهود اللذين يتقنون العربية اليوم. بينما قال نسبة 10% من اليهود بأن لديهم معرفة جيدة بالعربية، فقط 6% قالوا بأنهم يستطيعون تمييز الأحرف وحوالي 1.5% فقط يستطيعون الكتابة والقراءة بالعربية. حوالي 49% من الأشكنازيم (أي اليهود الغربيين) معنيين بأن تكون العبرية لوحدها لغة رسمية بإسرائيل، وقرابة ال- 60% من اليهود ذوي الأصول العربية معنيون بذلك ويعارضون مكانة العربية كلغة رسمية في البلاد. هذا المعطى مقلق بشكل خاص لأنه يشير الى مسعى لمحو وجود الفلسطينيين في إسرائيل، بالماضي وبالحاضر، والى النجاعة التي محيت بها امكانية انشاء ثقافة عربية-عبرية من الوعي الإسرائيلي.

يبدو بأن اللحظة مناسبة للتفكير بذلك لا سيما بهذه الأيام عندما يعملون في الكنيست على تشريع قانون “التعليق عن العمل” الذي يؤكد على المكانة الهشة لأعضاء الكنيست العرب، وبشكل رمزي أيضاً لمكانة مواطني الدولة العرب. هذه خطوة ترسم خط النهاية لعملية تجريد العربية من كونها لغة البلاد والعرب كسكانها. عملياً، هناك حاجة الآن لتعريف مكانة اليهود في البلاد من جديد بحيث لا تعتمد على التجريد والحرمان إنما على قبول سكان الحيز العرب ولغتهم كمركب هام بتصميم مستقبلنا المشترك في البلاد.

عالم اجتماع وباحث ثقافي، عضو الهيئة التدريسية بمدرسة “مندل” للقيادة التربوية

(*نشر المقال بجريدة “هآرتس” باللغة العبرية يوم 16.2.16)

التعليقات

 

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.