كتاب المدنيات الجديد: عالم موازي مليء باللخبطة والتضليل
استلمت في الأمس نسخة عن كتاب “أن نكون مواطنين في إسرائيل بدولة يهودية وديمقراطية”، كتاب المدنيات المعدل لطلاب الثانوية في المدارس الرسمية والرسمية-الدينية، والذي سيعرضه، على ما يبدو، وزير التربية في مؤتمر صحافي بالأيام القريبة. الكتاب مكون من 514 صفحة ولم يتسنى لي قراءته كله إنما فقط فصول منه تعنى كل منها بموضوع مختلف. لا بد من الاشارة هنا بأنه وبعد أن أرسلت الصيغ السابقة للكتاب لمختصين ومختصات بمجالات الديمقراطية والمواطنة وتوصل بعضهم إلى نتيجة بأنه غير صالح للنشر، تشكل هناك انطباع بأن الكتاب أعد بدون أية استشارة علمية، باستثناء الاستشارة التي قدمها د.أفيعاد بكشي من الدائرة الأكاديمية أونو (كما كتبت هنا في السابق). بشكل غريب، باستثناء إسم بكشي، لا يوجد ذكر لإسم أي أكاديمي أو أكاديمية ممن أرسلوا ملاحظاتهم على الصيغ السابقة للكتاب- قد تكون ملاحظاتهم كلها رفضت أو ربما طلب هؤلاء بأنفسهم بألا تظه رأسمائهم على الكتاب كمستشارين علميين. الملاحظات التالية هي بمثابة أفكار أولية تبعاً للفصول التي قرأتها.
نقطة الانطلاق المركزية للكتاب، كما يذكر المؤلفين في افتتاحيتهم للتلاميذ، هي “وثيقة الاستقلال” (وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل من عام 1948). يبدو بأن أحد أهداف الكتاب هو اقناع التلاميذ بوجود عالم موازي للعالم الذي نعيش به، واقع إسرائيلي تتحقق فيه رؤيا “وثيقة الاستقلال” بشكل مثالي تقريباً. هكذا، على سبيل المثال، في الفصل المخصص “للعرب، الدروز والشركس” يبدو بأن أفضل ما حصل للمجتمع العربي في إسرائيل كان قيام الدولة اليهودية. في الجزء المعنون “العناصر المؤثرة على التغييرات في المجتمع العربي بإسرائيل” كتب:
“للعلاقات المتبادلة (مع المجتمع اليهودي) هناك تأثير كبير على صياغة الطريق السياسية للعرب بإسرائيل، مثلاً عبر إقامة الأحزاب العربية القطرية، وأيضاً على مجالات الاقتصاد، المجتمع، الثقافة والتربية. نسوق على ذلك مثالاُ، الحصول على التعليم العالي… كنتيجة للتحول من مجتمع محافظ لمجتمع عصري. هذه التحولات تطرأ وتتسع، من ضمن أمور أخرى، بتأثير الأغلبية اليهودية. بالإمكان رؤية ذلك بعمليات الدمقرطة وأيضاً بالتغيرات في مكانة الحمولة والعائلة وفي مكانة النساء. هذه التغيرات تخلق توتر بين عمليات الدمقرطة وبين السعي للحفاظ على التقاليد والأطر المحافظة.”
إحدى الطرق لخلق هذا العالم الوردي الموازي للأقلية العربية في إسرائيل هي الامتناع عن تحليل الواقع والتركيز عوضاً عن ذلك على مكانة الأقلية العربية في “وثيقة الاستقلال” والتشريعات الإسرائيلية. من أجل الإشارة إلى المعاملة المتساوية تجاه الأقلية العربية وثقافتها مثلاً، قيل بأن هناك بند في التعديل الذي أدخل على قانون التعليم الرسمي عام 2000 والذي ينص على “الاعتراف بلغة، ثقافة، تاريخ، ميراث وتقاليد المجتمع العربي ومجتمعات أخرى بدولة إسرائيل، والاعتراف بالحقوق المتساوية لكل مواطني إسرائيل”. هذا البند بحسب القانون ينطبق على كل تلاميذ إسرائيل لكن من ناحية المؤلفين فمن الكافي بأنه تم تطبيقه (على العرب) بواسطة ادخال برامج “الميراث الإسلامي” للطلاب المسلمين وميراث “الديانة الدرزية” للطلاب الدروز. يشير الكتاب أيضاً بأن للأقلية العربية جهاز تربية اوتونومي ممول من الدولة مع أن العرب بالحقيقة لا يحظون بهكذا جهاز اوتونومي كجهاز التربية الرسمي-الديني وجهاز التربية المستقل وشبكة المدارس التوراتية لليهود الاورثوذكس: جهاز التربية العربي محكوم في الواقع من قبل موظفين يهود، وكما كتب في تقرير لجنة “دوفرات”، على المعلمين المعنيين بالتدريس في هذه الجهاز “الاوتونومي” الحصول على موافقة من ممثلي الشاباك (الأمر غير المذكور بوثيقة الاستقلال طبعاً!).
جزء من النقاش حول علاقات اليهود والعرب يرسم صورة مغلوطة، من ضمن أمور أخرى، بواسطة استعراض جزئي وأحادي الجانب للواقع. خذوا مثالاً على ذلك النقاش حول البدو والقرى غير المعترف بها التي يتم تعريفها على النحو التالي:
“بلدات عربية أقيمت من خلال تجاهل قوانين التخطيط والبناء وهي غير معترف بها من قبل الدولة. الحديث بالأساس عن بلدات البدو في النقب وبعض البلدات العربية في الجليل، والتي يعيش فيها قرابة ال- 70 ألف نسمة. البلدات غير المعترف بها لا تظهر في الخرائط الهيكلية، ليس لها مكانة قانونية، بعضها غير مربوط بشبكة الماء و\أو الكهرباء، وكل عملية بناء فيها هي بالضرورة غير قانونية”.
بإختصار، بلدات خارجة عن القانون. لا يوجد أي ذكر لحقيقة تواجد بعض هذه القرى في مكانها من قبل قيام الدولة، بينما بعضها الآخر يتواجد منذ عشرات السنوات بعد أن نقلت لهناك من قبل الدولة نفسها. الكتاب يعرض سياسة الحكومة فيما يخص القرى غير المعترف بها كمحاولات مستمرة من قبل الحكومة لحل هذا الوضع، مثلاً بواسطة مخطط برافر-بيجن المفصل في الكتاب، والتي تقابل بالمعارضة (“لكن الكثير من العرب واليهود عبروا عن معارضتهم للمخطط”). لا يوجد أي تفصيل لأسباب هذه المعارضة ولا أي ذكر لعمليات اخلاء وهدم البيوت المستمرة في هذه القرى.
لدي المزيد من الملاحظات حول الفضل المتعلق بالصدع اليهودي-العربي والذي يتعاطى هو الآخر مع الأقلية العربية ولكني سأبقيها لمرحلة لاحقة.
بمناسبة الحديث عن الصدوع في المجتمع، ففي العالم الموازي الذي خلقه الكتاب، باستثناء ثلاثة أسطر عن “الصدع الطائفي”، يتضح بأنه لا يوجد هناك شرقيين وأشكنازيين في إسرائيل، لا توجد بلدات تطوير، أحياء في ضائقة ولا تاريخ من الصراعات على الأراضي، الموارد والفرص. من ناحية الكتاب “كلنا يهود فلماذا دق الأسافين”. لا يوجد تمييز ولا عدم مساواة، كل ما في الأمر هو مجرد مشكلة في “مدى اندماج القادمين (اليهود) من الدول الاسلامية بمؤسسات التعليم العالي، بالمناصب العليا وبالإعلام”. هكذا، في حين أقام وزير التربية على الملأ “اللجنة لتعزيز ميراث يهود الشرق” والتي من المفترض بأن تعمل على ادخال تاريخ وأدب الشرقيين للمنهاج التعليمي، كتاب المدنيات الجديد يخفي هؤلاء ويمحو وجودهم السياسي، الإجتماعي والإقتصادي من تدريس المواطنة نهائياً.
إلى جانب الواقع المختلق والجزئي، يشتمل الكتاب على عدد كبير من الأخطاء الساهية واللخبطة بالمصطلحات، والتلميذ الذي سيدرسه سيخرج مع معلومات خاطئة، مغلوطة ومختلطة. في الفصل الذي يتحدث عن “فكرة الدولة الديمقراطية” يعرض الفيلسوف جون رولس بهذه الطريقة: “قيلسوف أمريكي كتب في كتابه المشهور “نظرية العدل” عن العدل في التقسيم وتسائل “كيف يتم تحديد العدل في التقسيم؟”. إجابته كانت: “العدل في التقسيم يحصل عندما يقوم أحدهم بتقسيم الكعكة بينما يحدد الآخر على أي قسم سيحصل كل واحد”. لا علاقة لهذا المثال بنظرية رولس ولو أنه يستخدمه في سياق آخر. مبادئ العدل التي وضعها رولس تعرض بشكل جزئي بينما يتم عرضه في نفس الرزمة مع لوك وهوبس فقط لأنه مفكر يستخدم “ميثاق اجتماعي”.
في فصل المناهج الاجتماعية-الاقتصادية- والذي تنكمش فيه بشكل عبثي كل المناهج الاجتماعية والاقتصادية في العالم لمنهجين لا أكثر، النيوليبرالية والديمقراطية الاشتراكية- الاقتصادي جون مينارد كينز، من آباء الاقتصاد الحديث والذي يدعم تدخل الدولة بالاقتصاد، يتقلب في قبره: حيث يتم عرضه كمن ينتمي للمعسكر النيوليبرالي الذي يقوده ميلتون فريدمان الذي يتقلب في قبره بعدم راحة هو الآخر اثر ارفاق هذا العضو الجيد لمعسكره. على طول النقاش في الكتاب، يتم استعراض ازدواجيات مبسطة كهذة، مثلاً بين قيمة الحرية وقيمة المساواة: حيث لا يتم عرض الموقف المركزي القائل بأن هناك علاقة بين المساواة والحرية، أي بأن تقليص عدم المساواة بين الأفراد والمجموعات يؤدي إلى اتساع حرية الكثيرين. يبدو بأن هذا الأمر لم يخطر ببال مؤلفي الكتاب. على نفس المنوال يتم عرض نظام الضرائب فقط كمساس بالحرية والملكية، مساس يهدف إلى تقليص عدم المساواة وليس إلى توسيع حرية عدد أكبر من الناس. التلميذ يخرج مع انطباع مغلوط بأن كل محاولة لتقليص عدم المساواة تشكل مساس بالحرية. أما النقاش حول النظرة الديمقراطية الجمهورية فهو قديم ومضلل ولا يتطرق لتوجهات جمهورية حديثة كنظريات فيليب بيتيت وكوينتين سكينر اللذين يطرحون تفسيراً مغايراً بالمرة وتوجهات مختلفة للحرية والديمقراطية من تلك المعروضة في الكتاب، مثلاً، كيف يساهم تدخل الدولة وتقليص عدم المساواة بتوسيع الحرية والديمقراطية.
أيضاً في فصل “المبادئ الأساسية لدولة إسرائيل” الذي يتناول القومية اليهودية، مصطلح القومية يحظى بتفسير واحد ضيق وهو ذلك القائل بأن ظاهرة القومية كانت قائمة منذ الأزل:
“ظاهرة القومية انتشرت بالفترة الحديثة لكن بحسب الكثير من الباحثين فجذورها تعود لفترات سابقة، حتى أن بعضهم يذكرون الشعب اليهودي القديم كإثبات على وجود القومية سابقاً. على مدى التاريخ، تكاتف البشر في مجموعات وعاشوا سوية، أحياناً على اساس أصول مشتركة وخلقوا ثقافة مشتركة بواسطة اللغة، العادات، التقاليد وأسلوب الحياة، وصار لديهم تاريخ مشترك. كل هذه الأمور وحدتهم ومنحتهم شعور بالانتماء”.
لا ذكر لنظريات مركزية حديثة للقومية كنظريات آرنست غيلنر، بنديكت اندرسون واريك هوبزباوم التي تصف ظاهرة القومية، وليس فقط انتشارها، كنتاج للظروف الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، السياسية والتكنولوجية للعصر الحديث. حسب الكتاب، الصهيونية ما هي إلا صحوة لقومية قديمة حملها الشعب اليهودي معه منذ أن أبعد عن أرضه.
بشكل عام، من الناحية التربوية، بعض فصول الكتاب بعيدة كل البعد عن خلق تلاميذ ناقدين ومتسائلين لأن حماسة المؤلفين للدفاع عن توجهات سياسية وأيديولوجية معينة تجعلهم يسوقون بالتفصيل كل الشروحات الممكنة التي تدعم موقفهم. مثلاً في الجزء الذي يتحدث عن “التبريرات لقيام دولة القومية”، أو في هذه الحالة ما يسمونه دولة القومية الاثنية-الثقافية اليهودية، لا يتم استعراض المواقف والانتقادات المضادة والتعامل معها بالمرة.
أيضاً التعاطي مع مصطلح الحقوق مغلوط من أساسه. على مدى الكتاب هناك لخبطة بين “الحقوق الطبيعية”، حقوق يستحقها كل انسان لمجرد طبيعته وبغض النظر عن وجود تسويات ومؤسسات دولة، وبين حقوق الانسان. في تعريف “القيم الأساسية للديمقراطية الليبرالية” كتب: “الانسان يستحق الاحترام والحقوق الانسانية المعروفة ب”الحقوق الطبيعية”، ولكن ما يميز الديمقراطية الليبرالية بأن الناس فيها تتمتع ليس فقط بالحقوق الطبيعية انما بمجموعة طويلة من حقوق الانسان ولو أن بعضها ليست حقوق طبيعية بالضرورة”. وتستمر اللخبطة في تحليل مصطلح الحق عندما يشير الكتاب إلى تحليل المصطلح بيد القانوني هوفليد حيث يقال بأن هناك مفهومان فقط لمصطلح الحق وفق هوفليد- التلميذ لن يعرف أبداً بأن هناك في الحقيقة أربعة مفاهيم لمصطلح الحق وفق هوفليد.
بالاضافة إلى ذلك، فبدل التقسيم المقبول لحقوق الانسان لثلاثة تصنيفات- حقوق مدنية وسياسية، حقوق اجتماعية وحقوق جماعية- لسبب ما يقوم الكتاب باختلاق تقسيم جديد لا أساس له بين حقوق طبيعية وحقوق اجتماعية في حين يتم تعريف الحقوق الاجتماعية على النحو التالي: “الحقوق الاجتماعية هي حقوق بالمجال الاجتماعي-الاقتصادي والتي تمنح للفرد من قبل الدولة. الحديث عن حقوق بمفهوم “الحق” بحسب قائمة هوفليد، ويتوجب على الدولة أن تقوم بشكل فعال بتخصيص موارد للمواطنين والسكان من أجل تحقيقها”. هذا وصف مضلل لا سيما وأن تخصيص الموارد لا يميز الحقوق الاجتماعية بشكل خاص، فالحقوق المدنية والسياسية كذلك بحاجة لتخصيص موارد.
هذا التمييز بين الحقوق المدنية والسياسية التي يفترض بأنها لا تحتاج إلى تخصيص موارد من الدولة إنما فقط لامتناع الدولة عن التدخل في حياة الفرد، وبين الحقوق الاجتماعية التي تحتاج إلى تخصيص موارد، هو عار من الصحة، وهو يستعرض عادةً من قبل أناس معنيين بتقليص قائمة حقوق الانسان. لو قام مؤلفي الكتاب بالتمعن، من بين أمور أخرى، بقرار رئيسة محكمة العدل العليا دوريت بينش بقضية التأمين الوطني ضد حسن (حول الحق الأدنى للمعيشة الانسانية بكرامة) الذي يذكرونه في نهاية الفصل، لعرفوا بأن لا أساس لهذا التمييز الذي يعرضونه في بداية الفصل بين الحقوق الاجتماعية والحقوق الأخرى.
تقسيم غريب آخر في معرض الحديث عن الحقوق الاجتماعية هو تقسيم الحقوق الاجتماعية لحقوق هناك توافق حولها وحقوق لا توافق عليها. هكذا، على سبيل المثال، يتضح بأن الحق في المسكن بحسب الكتاب هو حق اجتماعي لا توافق عليه، ذلك على الرغم من أنه يعتبر حق وفق القانون الدولي وبأنه يظهر في وثائق مركزية عالمية لحقوق الانسان كوثيقة حقوق الانسان للأمم المتحدة وميثاق الحقوق الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية. التقسيم هو ليس بين دول ترفض الاعتراف بهذا الحق تماماً وبين الدول التي تحترمه إنما في موقف الدول حيال ما يشتمل عليه هذا الحق. هناك “نواة صغيرة” للحق توافق عليها غالبية الدول حتى عندما لا يظهر هذا الحق بدستور الدول، كدولة إسرائيل حيث لا يشتمل الحق بالمسكن كأحد الحقوق الأساسية، لكن جميعها تخصص وسائل لصالح هذا الحق. النقاش هو فقط حول حجم هذا الحق، ما بعد النواة الصغيرة، وليس حول الاعتراف به من الأساس.
في مناقشة الكتاب لحرية التنظيم وحرية تكوين الجمعيات اختفى احد الحقوق الاساسية العالمية وأهمها: الحق في حرية تنظيم العمال لأنفسهم، الحق في ادارة مفاوضات جماعية وتوقيع اتفاقيات جماعية. نفس الشيء ينطبق على الحقوق الإجتماعية: الحق في حرية التنظيم يذكر كحق لا توافق عليه على الرغم من أنه واحد من الحقوق الاساسية الأربعة الوحيدة لمنظمة العمل الدولية (إلى جانب منع العمل القسري، منع التمييز ومنع عمل الاولاد) التي يتوجب على كل الدول احترامها، وعلى الرغم من حقيقة ظهور هذا الحق بكل وثيقة مركزية دولية تتعلق بحقوق الانسان.
يتبع بملاحظات اضافية.
محاضر بمجال القانون ومدير أكاديمي في “وحدة حقوق الانسان” في المركز الأكاديمي للقانون والأعمال في رمات جان، يدرس الفلسفة في الجامعة المفتوحة، ويرأس مركز “ادفا” لدراسة المجتمع في إسرائيل.
المزيد:
“أن نكون مواطنين في إسرائيل”: ملاحظات الأخصائيين التي لم تسمع.