إمكانية "تعريب" العبرية في مداولات لجنة اللغة
إلى أية درجة تم التعاطي مع امكانية تعريب اللغة العبرية في مداولات لجنة اللغة؟ بحسب يهودا شنهاف كان هناك لقاء متواصل بين العبرية والعربية مع بدايات الاسلام إعتمد بالأساس على الحوار اللاهوتي اليهودي-العربي، بيد أن هذا اللقاء إنقضى بشكل كبير في السياق الجديد لفلسطين\أرض إسرائيل. “معنى ذلك”، ادعى شنهاف “كان محو تاريخ البلاد من فترة المقرأ حتى الحاضر، ونفي الوجود الفلسطيني في الحيز” بحيث “تحول ثنائي الكلمات “يهودي-عربي” إلى تابو في العبرية”، وتم رفض امكانية التعريب. شنهاف يستعرض، من ضمن أمور أخرى، براهين من مصححين لغويين مختلفين رفضوا التأثيرات العربية بشكل قاطع وخاصة الكلمات القادمة من مصادر عربية.
مراجعة مداولات لجنة اللغة حتى سنة 1928 تظهر بأنه فعلاً كان هناك في خطاب التخطيط اللغوي محواً لفترات وجوانب كاملة في نشأة العبرية، ولكن تأثير العربية على العبرية، في نفس الوقت، لم يرفض كلياً. عملياً، العربية كانت احدى اللغات المذكورة في أحيان كثيرة كمصدر محبذ للتأثير والاستيحاء للغة العبرية. العربية كانت بدرجة كبيرة موضع شغف لدى الكثير من أعضاء اللجنة اللذين عبروا عن رغبة في أن تتشبه العبرية بالعربية الأصلية- وخاصة بمجالات النطق والتهجية. العربية اعتبرت أيضاً كمصدر ممكن لتوسيع مفردات العبرية. لهذا، يبدو وبأنه في هذه المرحلة المبكرة من التخطيط اللغوي لم تمحى الصلة مع العربية وكانت هناك محاولات لتعزيزها حتى. بالرغم من ذلك، وبالرغم من المكانة الهامة للعربية، المداولات تظهر أيضاً بأن أعضاء اللجنة تحفظوا من التعبير عن أي تعاطف مع العرب أو مع التوجه المؤيد لتنبي ميزات من الثقافة العربية.
العربية كانت مثار جدل- لم تقال عنها أمور ايجابية فقط بل كان هناك من هاجموها وهاجموا تأثيرها. بالإمكان الوقوف على ذلك من خلال مقارنتها باللغات الأخرى: فبينما ذكرت بعض اللغات، كاليديشية والروسية، عادةً باستهتار، لم يقم أي عضو من أعضاء اللجنة بذم الفرنسية، الألمانية أو الانجليزية- اللغات المركزية في أوروبا: مقابل هذه اللغات، العربية كانت في مكان خاص بالوسط، لأنها اعتبرت نموذجاً يقتدى به، من جهة، وكان هناك من ذمها في سياقات مختلفة، من جهة أخرى. تبرز في هذا السياق بشكل خاص الأقوال التي وضحت بأن هناك فرق ثقافي كبير بين اليهود والعرب، وبأن الثقافة العربية لا تلائم الاحتياجات العصرية لليهود.
مراجعة أكثر دقة للمداولات تكشف بأن دعم اللغة العربية جاء عملياً من طرف نواة صغيرة من الأعضاء في لجنة اللغة. معظم المواقف المؤيدة لاستخدام العربية كانت من طرف اليعيزر بن يهودا ودافيد يالين، بينما رفض بقية الأعضاء العربية أو لم يتحدثوا لصالحها في معظم الأحيان. قراءة النقاشات تكشف أيضاً بأن بن يهودا ويالين عادةً ما وجدا نفسيهما في موقف دفاعي في هذه القضية. هكذا، كان على بن يهودا الذي اقترح تبني جذور اللغة العربية أن يوضح، مرة تلو الأخرى، بأن اقتراحه ليس جارفاً إنما مقيد بتحديدات كثيرة، وبأنه لا ينوي تعريب العبرية إنما العكس- أن يرجع للعبرية كنوزها المفقودة. بن يهودا أكثر من استخدام المصطلحات القومية والدينية لكي يؤكد على يهودية و”كشروت” المصطلحات التي يسعى إلى “إرجاعها” للعبرية. كذلك يالين الذي اقترح بأن تتبنى اللجنة القواعد الاملائية التي تعتمد على العربية كان عليه أن يوضح بأن الحديث ليس عن التهجية العربية إنما عن تهجية تعتمد على التناخ. يبدو بأن مناصري العربية في لجنة اللغة كانوا في حالة دفاع عن النفس او أنهم اضطروا إلى تقزيم ايديولوجيتهم المؤيدة للعربية اذا ما افترضنا بأنهم حملوا هكذا ايديولوجية.
اقتراح بن يهودا بأن تقوم العبرية بتبني جذور اللغة العربية كان ربما المثال الأكثر تشويقاً وتعقيداً لأن بن يهودا الذي عرف بأن اقتراحه راديكالياً وبالغ الأثر، لم يكتفي بعرضه إنما تقدم باقتراح أكثر تطرفاً وراديكالية في نفس المحفل- خلق جذور جديدة من اللاموجود. يالين الذي كان، كما ذكر سابقاً، من مؤيدي العربية اشتكى من قيام بن يهودا بعرض موضوعين بعيدين كل هذا البعد عن بعضهما في خطاب واحد- الأمر الذي أدى بنظره إلى رفض القرار المتعلق بالعربية في نهاية المطاف. مع ذلك، قد يكون بن يهودا قد نظر الى أفعاله بطريقة مختلفة: ربما اعتقد بأنه اذا ما تقدم باقتراح متطرف أكثر (خلق جذور من اللاموجود) سيكون بإمكان اللجنة عندها التنازل وقبول الاقتراح الأقل تطرفاً (تبني جذور العربية). بكلمات أخرى، قد يكون بن يهودا قد اتبع هنا حيلة بلاغية وسياسية بالذات بسبب اخلاصه لنموذج العربية. بواسطة رفع الاقتراح المتطرف ربما حوا أيضاً بأن يوضح لمستمعيه كم هي كبيرة احتياجات العبرية بمجال توسيع المفردات- بحيث لا يوجد مفر من تبني أي طريقة، وحتى الأكثر عشوائية، في سبيل توسيع اللغة.
ربما ينطوي خطاب بن يهودا هذا على جواب عابر للسؤال عن كون أعضاء اللجنة “ساذجين” أم مناورين: على الأقل فيما يتعلق ببن يهودا، فيبدو بأنه اجتهد كثيراً لغمغمة اخلاصه للعربية لدرجة تصعب علينا معرفة إن كان يحاول تحقيق تعريب العبرية بمكر أم أنه لم يأخذ هذه القضية على محمل الجد. اذا ما كان قد حبك “حيلة” من هذا النوع لدفع فكرة تبني الجذور العربية فهذه قد فشلت والنقاش تأزم كما تخوف يالين. من الممكن أيضاً بأن بن يهودا سعى من خلال هذا النقاش لأن يظهر بالذات بأنه ليس “مستعرباً” وبأن هناك تحديدات كثيرة على إخلاصه للغة العربية- في هذه الحالة يبدو بأنه نجح. يبدو بأن توجهه في هذه القضية كان مختلفاً عن توجه يالين الذي امتنع عن الالتفافات والحيل، وتعامل مع الموضوع بجدية تامة، وأراد من كل قلبه بأن تصادق اللجنة على قرار بتيني جذور العربية.
في كل الأحوال، مع الأخذ بعين الاعتبار رفض جزء من الأعضاء ومحاولة بن يهودا ويالين المستمرة لغمغمة تأييدهم للعربية، من السهل أن نفهم لماذا كانت المطالب للتعريب ضعيفة بهذه الصورة حتى احتضرت في نهاية الأمر. اذا ما أضفنا لذلك تقويض العلاقات بين اليهود والعرب غداة أحداث 1929 (“ثورة البراق”)، وفاة بن يهودا وسيطرة كلوزنير، سلوشتس وآخرون من أعضاء اللجنة من أصحاب الميول المعادية للعربية بشكل واضح، يمككنا أن نرى كم كان “التوجه العربي”، كما وصفه اسحاق افنيري (1964)، جزئياً وقصير الأمد.
وعليه، يبدو بأنه لم يكن هناك توجه قوي للتعريب في لجنة اللغة ولكن كانت هناك نواة معينة مؤيدة للغة العربية، وكان على هذه أن تتعامل بشكل مستمر مع النقد وربما أيضاً مع الشكوك الداخلية حتى ضعفت واحتضرت في نهاية المطاف. مداولات لجنة اللغة مشوقة لأنها تمكننا من تتبع الطريقة التي تطور من خلالها الصراع مع العربية- من لغة سامية مثالية تمثل نموذجاً علمياً أحضره أعضاء اللجنة معهم من المثقفين الاوروبيين للغة الشعب الذي يعتبر غير متطور وغير متحضر بما فيه الكفاية ذلك عدا عن تواجده في حالة منافسة مع اليهود بأرض إسرائيل. يبدو واضحاً من مناقشات اللجنة بأنه حتى مؤيدي العربية اجتهدوا ليوضحوا بأنهم لا يحملون أجندة عربية، لهذا فاستخدام العربية يذكر غالباً فقط كاستخدام مورد بالإمكان استغلاله دون التطرق للصلة الثقافية الممكنة بين الشعبين.
في بعض المواضع، مثل النقاش حول مسألة اللهجة، نجد تعاملاً مركباً أكثر كالافتراض بأن اللغة العربية هي جزء من البلاد، وبأن متحدثي العبرية المستقبليين قد يكونوا ملمين بالعربية أيضاً وقد يكون بإمكانهم لفظ ألفاظها “الشرقية” بسهولة. أمثلة من هذا النوع تشير بأنه كان هناك من بين أعضاء اللجنة من كانت لديهم رؤيا للوجود المشترك بين اليهود والعرب كشيء محبذ وحتى ملزم بأمر الواقع. التعامل مع العربية في مداولات اللجنة كان متبايناً اذاً- من جهة، العربية لم تعتبر كتهديد على العبرية لأنها لغة سامية “نظيفة” ومثالية، ولكن من جهة أخرى، تنافست عدة أجندات فيما يتعلق بمكانة العربية ومعارضة تأثيرها- بإسم معايير تناخية، يهودية، سياسية، ثقافية، إقليمية، حداثية وغيرها.
نهايةً يجب عدم الفصل بين سؤال اللغة العربية وسؤال التأثير الشامل الذي كان لمسعى احياء العبرية على التنوع اللغوي بين اليهود، المسألة التي كانت بلا شك احدى النقاط العمياء لدى أعضاء لجنة اللغة. بالتوازي مع صعود المعايير العبرية التي وضعتها لجنة اللغة، تحول اليهود من متعددي اللغات لأحاديي اللغة، ومحيت تقريباً كل اللغات اليهودية وكل أنواع العبرية (كالعبرية اليمنية، الأشكنازية وغيرها) التي كانت قائمة خلال فترة عمل اللجنة. أعضاء اللجنة ليس فقط بأنهم لم يأخذوا هذا الفقدان بعين الاعتبار بل أنهم نظروا إلى التنوع اللغوي لليهود بأكثر حال كمصدر ازعاج. من المؤسف بأن أعضاء اللجنة اللذين انتموا بغالبيتهم لجيل من المثقفين اللذين بحثوا وكانوا سبحثون في لغة المخطوطات العبرية واليهودية من الفترات المختلفة، التهجية وسط التجمعات اليهودية وثقافات وعادات الجاليات- عملوا باليد الأخرى بشكل حثيث على محو الغنى الثقافي لليهود وتقليصه لتناقض بسيط جداً بين لغة سليمة ولغة غير سليمة.
تحقيق ايديولوجية احياء اللغة وتحويل العبرية للغة سليمة هي الوحيدة التي أشغلت بال أعضاء اللجنة. في بعض المواضع يبدو بأنه تم تداول سؤال اللفظ، مثلاً، في سياق صلته بسؤال تمثيل طوائف إسرائيل، وسؤال التهجية اقترن بسؤال تمثيل الميراث الأدبي اليهودي، ولكن مخططي اللغة عموماً لم يتنبهوا، وعملياً لم يرغبوا، في اتاحة المجال أمام هذا التنوع وطمحوا الى محوه بواسطة عملهم.
مقتطفات مترجمة من كتاب “نخلق أسلوباً للجيل”، يئير أور، صادر عن دار نشر “اوف” 2016.