وهم "اقتصاد السلام" الذي قاده بيرس
بالإمكان وصف جنازة شمعون بيرس كحدث عالمي، وهو وصف مناسب لمن كان ربما أول من لاحظ العولمة هنا وصعد على موجتها ليطرح رؤية تربط بين اقتصاد السوق، الديمقراطية والسلام، ذلك بالتوازي مع اجراء حوار حول اسئلة محلية اكثر تتعلق بالعدل والحقوق الاقتصادية والسياسية. “الشرق الاوسط الجديد” عبر عن التغييرات العالمية التي طرأت في بداية التسعينات، عن الأمل الذي أثارته هذه بإمكانية ظهور نظام عالمي جديد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وعن الايمان بأن الصراعات حول السيادة والحكم التي تبدو عصية على الحل قابلة للحل الآن في العالم الجديد الذي تصبح فيه الحدود غير واضحة مقابل القوى الاقتصادية. ولكن الروح التي سادت في تلك الفترة قد تجاهلت في نفس الوقت الجوانب الأخرى للعولمة والحركات المضادة التي ستثيرها.
كان من الصعب تجاهل العولمة مع بداية سنوات التسعينات. صحافيين وأكاديميين تحدثوا بانفعال او بانتقاد عن عالم يتغير امام أعينهم، عن ثورة لا سابقة لها تمحو الحدود وتصمم خارطة العالم من جديد. الانترنت، سقوط جدران الاتحاد السوفييتي، “الهايتك” (الصناعات عالية التقنية)، التجارة العالمية وحتى الهمبرجر كانت جميعها جزءاً مما سمي ب”القرية العالمية”. الصراعات القومية والنزاعات الاقليمية بدت للحظة كبقايا من زمن آخر في عالم جديد يحل فيه الاقتصاد باجندته العقلانية محل السياسة القديمة والمليئة بالصراعات. خصخصة الاقتصاد، وكذلك الهوية والذاكرة، كان من المفترض بأن تمكن كل شخص من تحقيق ذاته- دون ان تكبله تقييدات وتضييقات الحدود القومية. عالم من الفرص الجديدة وقف بالباب.
ليست صدفة بأن زعماء العالم تحدثوا في جنازة بيرس عن الدور الذي لعبه في السيرورة التي حدثت هنا فقط قبل عقدين او أكثر بقليل. رؤية الشرق الاوسط الجديد والرجل الذي صاغها كانوا جزءاً من الليبرالية العالمية والتفاؤل الذي بثته، مع العلم بأن هذه لم تسعى فقط لأن ترى العالم كما هو إنما أيضاً كما يمكن أن يكون وسيكون. الشرق الاوسط القديم والغارق بالصراعات الدينية، القومية والاقليمية، اوضح بيرس، سيستبدل بحيز جديد، خالي من الحدود ومتصل بالعالم المتجدد. بدلاً من النزاعات، سفك الدماء والصراعات التي كان فيها مكسب طرف واحد خسارة للطرف الآخر، سينجح التعاون الاقتصادي الذي يحسن للجميع والنمو الاقتصادي الذي يتغلغل الى الاسفل ويغير سلم الاولويات في وضع اجندة جديدة على الطاولة. المشاكل المحلية المتعلقة بالعدل والحريات الاقتصادية والسياسية والأسئلة المتعلقة بالحدود المستقبلية، المستوطنات واللاجئين أصبحت للحظة هامشية.
الشرق الاوسط الجديد، كرؤية اقتصادية وسياسية، كان بمثابة المدد الغيبي الذي سيمكن اسرائيل وجاراتها من تجاوز الترسبات والصدمات وعدم التوافق العميق والتي تحول كلها دون تطور المنطقة. في الشرق الاوسط الجديد، كما في اوروبا المتقدمة باتجاه الوحدة، ستختفي كل هذه والى جانبها الفقر، الكراهية والأنظمة القمعية لصالح المنطق الاقتصادي ومعه التطور التكنولوجي والنمو الذي سيحسن الى الجميع والاندماج في القرية العالمية.
“اذا كانت الحرب هي المصدر لضائقة المنطقة فالحل الوحيد هو السلام. بالإضافة الى الانعكاسات الاقتصادية المباشرة للسلام، مجال كبير من الفرص المميزة سيفتح أمامنا.. مع تشكل تسويات اقتصادية وتجارية جديدة، هل سيسمح الشرق الاوسط لنفسه بأن يبقى في الهامش؟ الانتقال من اقتصاد حرب لاقتصاد سلام سيخلق واقع جديد للشرق الاوسط. لدينا مصلحة حقيقية لاستغلال الفرص التي تقف امامنا لرفع مستوى الحياة من أجل المنطقة ومن أجل دولنا ومواطنينا”.
(من “The New Middle East” صفحة 46)
شمعون بيرس ورؤية الشرق الاوسط الجديد تحولوا لماركة عالمية ومعروفة ولكنهم لم يضربوا جذورهم هنا بالمنطقة بحق، ذلك باستثناء النخب الاقتصادية التي أسرعت لتبني هذه الرؤية. ليبرالية بيرس تحدثت عن السلام وعن الاخوة بين الشعوب، وربما قصدت ذلك أيضاً، ولكن هذه كانت مغروسة بعقلانية اقتصادية وغائية حولت السلام لمفهوم ضمناً تقريباً أما اسئلة العدل، الآني والتاريخي، فباتت كالتفاصيل الصغيرة مقابل العمليات الكبيرة التي طويت بداخلها. هذه الرؤية، كما سبق وذكرنا، لاءمت روح الفترة كالقفاز لليد: شعور النصر لدى الليبرالية الديمقراطية ورأسمالية نهاية التاريخ حيث الاندماج بالنظام العالمي الجديد هو أمر ضروري بطبيعة الحال. الصحافي توماس فريدمان من “نيويورك تايمز” كان متفائلاً بشكل خاص مع بداية عملية السلام: “اسرائيل ستكون محرك “الهايتك” الذي سيدفع معه الاردن والفلسطينيين الى الأمام. ها قد انضمت “سيمنس” لشركة اسرائيلية، “سيمنس” انظمة اتصالات بجانب حيفا، مهندسي “سيمنس” في رام الله ومركز “سيمنس” في ألمانيا. هذه فقط البداية”.
من ناحية بيرس الشرق الاوسط الجديد كان الاستمرارية المباشرة تقريباً للخطة الاقتصادية لتثبيت السوق من عام 1985، والتي قام في إطارها، بالتعاون مع اقتصاديين ليبراليين، بتنفيذ خصخصة واسعة وبتبني مبادئ اقتصاد السوق. بعد ذلك بخمس سنوات، التقت الليبرالية الاقتصادية برؤية السلام وبالمنظور العقلاني-المهني الذي سيقودها. التعاون الاقتصادي، نصت الرؤية، سيقود لتفاهمات سياسية، اعتدال واستعداد للتسوية، والتسويات ستضمن بدورها استمرار التعاون الاقتصادي والدفع باتجاهه. هكذا بحركة شبه لولبية من النمو الاقتصادي والبصيرة السياسية سنتقدم باتجاه الشرق الاوسط الجديد- ففي واقع العولمة الآخذ بالتشكل ستتلاشى الصراعات القومية والاقليمية مقابل المنطق الاقتصادي. في معرض خطاب القاه في واشنطن بعام 2000، بعد ان تلاشت رؤية الشرق الاوسط بنفسها، شرح بيرس المنطق الليبرالي الذي يقف بمركز الرؤية:
“عملية تغيير طرأت على العالم.. تطور من اقتصاد الارض لاقتصاد الادمغة… باللحظة التي ينقل فيها الشعب التركيز من الارض الى الدماغ، تفقد الحدود أهميتها. لا حدود للأدمغة، هذه لا تعترف بالحدود. عملياً، الحكومات تصبح غير مهمة بالمجتمعات الحديثة، فهي أصغر من ان تتعامل مع التحديات الكبيرة. الاقتصاد العالمي يتم بدون حكومات.. الشركات متعددة القومية أصبحت أهم من الحكومات، الأسواق أصبحت أهم من الدول”.
العملية السياسية واتفاقيات اوسلو كانت بعيدة بدرجة كبيرة عن رؤية الشرق الاوسط الجديد. كانت هذه اتفاقات محلية ودقيقة التفاصيل بين سياسيين وشعوب ارادوا اشياء مختلفة وكان لديهم القليل من الثقة أحدهم بالآخر: الانسحابات وترسيم الحدود والتقسيم لأراضي ِ A و- B و-C والنقاشات المتواصلة على كل دونم ودونم اثبتت بأن الأرض والسيطرة عليها هي امور ما زالت ذات أهمية. ولكن حلم الشرق الاوسط الجديد كان هناك في الخلفية. أولاً قد يكون القرار بتأجيل النقاش حول قضايا الحل النهائي (الاستيطان، القدس واللاجئين) والتركيز على العمليات التدريجية قد اعتمد على أمل بأن تثمر التغييرات الاقتصادية عن تغير بسلم الاولويات، بأن تحول الاعداء الى شركاء وبأن تجعل قضايا الحل النهائي قابلة للحل، كله بروح الرؤية الليبرالية. ثانياً والأهم، فقد تحققت رؤية الشرق الاوسط الجديد بالفعل ولكن بالأساس لصالح النخب الاسرائيلية وشركاؤها: اسرائيل شهدت في تلك السنوات نمواً اقتصادياً، انفتحت على العالم وغيرت معالمها. اسواق جديدة، شراكات واندماجات دولية وشركات متعددة القومية تموقعت هنا. حتى “ماكدونالز”، رمز العولمة، وصلت الى هنا، وبالصدفة أم لا، كان ذلك بفضل احد مؤسسي حركة “السلام الآن”.
عملية السلام لم تتم فقط في غرف المفاوضات التي نوقشت فيها الاجراءات الأمنية وتقسيم الأراضي انما أيضاً خارج هذه، في المنتدى الاقتصادي في دافوس، في مؤتمرات فاخرة، وجولات مغطية اعلامياً لسياسيين ورجال أعمال في طريقهم للتوقيع على اتفاقيات جديدة. في تلك الامكنة، بدى وكأنه فوق الواقع المحلي للإجراءات الأمنية واستمرار الاستيطان بدأ يتشكل واقع آخر من التوافق والتعاون بين النخب التي تحسن رؤية المستقبل والترفع عن المشاكل المحلية. المجتمع التجاري لم يكتفي بالتعبير عن تقديره للمسار الجديد الذي ربط بين السلام واقتصاد السوق انما لعب دوراً فعالاً أيضاً. كان من السهل على رجال الأعمال التواصل مع حزب “العمل” بفضل العلاقات القديمة وحقيقة تبني الحزب لاقتصاد السوق بروح تلك الفترة. من جهة المجتمع التجاري، ما بدأ بالخطة الاقتصادية عام 1985 كان يجب ان يستمر بعملية السلام التي ستخرج اسرائيل من العزلة السياسية وتفتح أمامها الأسواق والفرص. رجال الأعمال تبنوا لغة رؤية “الشرق الاوسط الجديد” حتى أصبحوا المسوقين للعلاقة بين السلام والنمو الاقتصادي والفرص التي ممنوع على اسرائيل ان تضيعها. وقد أحسن وصف ذلك داني جيلرمان الذي كان في حينه رئيس اتحاد الغرف التجارية:
“بإمكان اسرائيل ان تصبح مجرد دولة أخرى.. وبإمكانها أن تصبح المركز الاستراتيجي واللوجستي للمنطقة كلها… كسنغافورة او هونج كونغ شرق اوسطية تموقع الشركات الدولية مكاتبها الرئيسية فيها.. نحن نتحدث هنا عن اقتصاد مختلف كلياً.. على اسرائيل التصرف سريعاً لكي تتأقلم وإلا فسوف تفقد هذه الفرصة التي تحدث لمرة واحدة وعندها سنقول “كان بإمكاننا..””.
(من بيان للصحافة، 31.8.93)
استغرق الواقع أقل من عقد لكي يخيب ظن الليبراليين ورؤيتهم. العولمة لم تسطح العالم لقرية عالمية أما نهاية التاريخ فاستبدلت بنبوءات جديدة حول حروب حضارات وواقع معروف من الصراعات الدموية حول اسئلة السيادة والحقوق القديمة. الناس تصنع التاريخ، كتب ماركس قبل سنوات كثيرة، ولكن ليس بالظروف التي اختارتها. النهاية (المؤقتة؟) للشرق الاوسط الجديد معروفة حد الملل: عمليات انتحارية وردود على العمليات الانتحارية، جولات مفاوضات لم تنجح، مقتل رابين وطبعاً انتخابات 1996. جيلرمان وآخرون كانوا قد حذروا الجمهور الاسرائيلي بأنه اذا لم ينتخب بيرس ولم يواصل عملية السلام- فستحل به مصيبة اقتصادية وسياسية. الناخب الاسرائيلي، كما نذكر، لم يقتنع وكذلك الجمهور الفلسطيني. صار المثل يضرب بالشرق الاوسط الجديد كموضع سخرية وسذاجة سياسية.
لكن انهيار رؤية الشرق الاوسط الجديد، مثل ولادتها، كان محبوكاً بالعمليات العالمية. افتراضين مغلوطين وقفا بمركزها: بأن القرية العالمية هي طموح عالمي وبأن المشاركة بها مفتوحة أمام الجميع. الاول، بروح نهاية التاريخ، مال الى التقليل من أهمية الهويات المحلية والتهديد الذي حملته عمليات العولمة عليها، أما الثاني فقلل من أهمية الفجوات الاقتصادية التي بدأت تتسع بالتوازي مع النمو وفتح الحدود. في معرض تطرقه للعصر الليبرالي في بداية القرن الماضي، يسمي المؤرخ الاقتصادي كارل بولاني ذلك ب”الحركة المضاعفة”: اقتصاد السوق الذي يحول المزيد والمزيد من الأشياء لبضائع ويفصلها عن سياقها الاجتماعي لا يمكن ان يحافظ على نفسه لوقت طويل لأن المجتمع يرد بحركة مضادة. العمليات الليبرالية التي تقوض النظام القائم تولد ردة فعل مضادة من طرف هؤلاء الذين يشعرون بالتهديد وبأن عالمهم يتزعزع. التعصب والإرهاب الديني واختيار هؤلاء الذين يعدون بإعادة الامور الى نصابها، الهوية القومية أو الأمن هي الرد على الرؤية العالمية لمن لا يريد او لا يستطيع المشاركة بهذه. هكذا، من ناحية سكان الضواحي الاسرائيلية والفلسطينيين بالأراضي (المحتلة) فقد كانت رؤية الشرق الاوسط الجديد بعيدة بعد دافوس. الواقع الأمني، العنف والفجوات الاقتصادية، في المقابل، كانت وما زالت محسوسة بالتأكيد.
حتى بعد ان تدهورت عملية اوسلو لجولات جديدة من العنف، تصريحات حول “عدم وجود شريك” وبناء الجدار، استمرت المبادرات الاقتصادية والسياسية واللقاءات (والتي لقبت بسخرية أحياناً ب”صناعة السلام”) ولكن زخم الشرق الاوسط الجديد كان قد تلاشى. كلمة رؤية ذكرت كثيراً على مدى الاسبوعين الأخيرين، وكذلك الميراث الذي ابقاه لنا بيرس. ولكن العبرة التي لم يتم الحديث عنها كثيراً كانت الوهم الذي افترض بأن اقتصاد السوق سيجلب السلام تحت كنفه، وبأنه من الممكن بأن يتحقق السلام بمعزل عن الاسئلة المحلية المتعلقة بالحقوق والعدل للإسرائيليين وللفلسطينيين على حد سواء. الربط الذي حاكه بيرس، بروح الفترة، بين الاقتصاد والسلام لم يختفي كلياً ولكنه تأقلم لأيدي رافعي الراية الجدد للرؤية (؟) الجديدة لإدارة الصراع. التطوير والتحسينات الاقتصادية تحولت بالسنوات الأخيرة، أيضاً بحالة الفلسطينيين مواطني اسرائيل بدرجة معينة، ليس لرافعة سياسية انما لبديل عن الحقوق السياسية-المدنية وعن حل الصراع المطلوب لضمانها.
الليبرالية التي ربطت بين اقتصاد السوق وبين سلام شمعون بيرس والتي ولدت بأوائل سنوات التسعينات، استبدلت بالعالم وايضاً هنا بالمحافظة الجديدة (او المحافظين الجدد) التي ربطت بين اقتصاد السوق واليمينية السياسية. “نحن نجد الأمل في ميراثه، كما يجده العالم”، هذا ما قاله نتنياهو في رثاء بيرس. عن هذا قال كافكا مرة: “الأمل، الكثير من الأمل ولكن ليس لنا”.
بروفيسور في قسم الادارة والسياسية الجماهيرية بجامعة بن غوريون في النقب.