مدرسة خضوري في طولكرم: من الانتداب حتى الاحتلال
المدرسة الزراعية خضوري نجحت في الحصول على مكانة خاصة في الذاكرة الإسرائيلية: المكان الذي نشأ فيه حاييم جوري، ييجال الون، اسحاق رابين وغيرهم من أبناء جيل “البلماح”: المدرسة التي تعتبر السهل الذي نمى فيه الاسرائيلي الميثولوجي الذي ولد في البلاد. “خضوري كانت أكثر من مجرد مؤسسة تعليمية-تربوية”، كتب الون في مذكراته، لقد كانت بمثابة “اطار حياة يربي ويمكن”، وصقلت طابع وروح الطلاب. بمرور الأيام، وصل الكثير من هؤلاء الطلاب لتصدر قيادة “جيش الدفاع الإسرائيلي” في بداية طريقه بينما شكلت أخلاقهم، طريقة لبسهم وحديثهم وتوجههم “الدغري” (أي المباشر) مجمعاً للتصورات والروابط الذهنية حول النموذج المثالي لجيل “البلماح” في الأربعينات والخمسينات.
بالإمكان القول بأن مدرسة خضوري تحولت الى ما يسميه المؤرخ اليهودي-الفرنسي بيير نورا (Nora) “موقع ذاكرة” (Lieu de mémoire) “أي حيز او جسم فيزيائي يشفر، يلخص ويرسخ الذاكرة القومية”. مع ذلك، قلائل في الجمهور اليهودي-الإسرائيلي يعون حقيقة وجود مدرسة توأمة، تحمل هي الأخرى اسم خضوري، في طولكرم. فكرة ضرورة تأهيل يهود وعرب للعمل الزراعي بمعايير حديثة هي التي حركت مؤسسي المدرستين. الفكرة نفسها لم تكن جديدة وقد وجدت لها تعبيراً في مدرسة “مكفي إسرائيل” ولكنها لمعت من جديد بفضل الفيلانثروب اليهودي-العراقي السير الياس خضوري الذي قرر في نهاية حياته ايداع مبلغ محترم من المال بيد الحكومة البريطانية لبناء “مدرسة او مدارس” (هذا ما ورد بالأصل) تسمى على اسمه في فلسطين\أرض إسرائيل او في العراق “كما تراه الحكومة البريطانية مناسباً”.
الياس كان من بين النخبة اليهودية في بغداد، ووقف على رأس عائلة تجار ثرية كان هناك من اعتبرها الموازية لعائلة روتشيلد في الشرق. خلافاً لأخيه اليعزر الذي كان رجل أعمال وفيلانثروب داعم للصهيونية، لم تكن الأحاسيس المؤيدة للصهيونية هي التي حركت الياس خضوري انما ايمانه بقدرة ووظيفة الامبراطورية في تربية وتحسين احوال السكان الاصليين، مسلمين ويهود على حد سواء. لكن وصيته تركت مجالاً واسعاً للتفسير: اين ستقام المدارس، ماذا سيكون طابعها ومن سيكون التلاميذ؟ بفضل النشاط الحثيث للمكتب الصهيوني في لندن تم نقل التركة كلها لصالح حكومة الانتداب برئاسة المفوض السامي هربرت صموئيل. لكن هذه الخطوة لم تحل الصعوبات انما أثارت نقاشاً ثاقباً حول الاستخدام المحلي للتركة- هل ستقام مدرسة مختلطة مشتركة لليهود والعرب ام مدرستين منفصلتين؟.
على العكس من صموئيل الذي اعتقد بأنه يجب السعي لإقامة مدرسة مشتركة، عمل موظفون يهود في حكومة الانتداب على الدفع باتجاه خطة تستنفذ كل اموال التركة لإقامة ثلاثة مدارس للطلاب اليهود فقط، في القدس ويافا وطبريا، على أن يقوم معماريين يهود بالتخطيط لها وان تستند الى مبادئ “العمل العبري” (أي الاعتماد على اليهود في كل مهنة وفرع). النقاش انتهى فقط بنهايات عام 1925 عندما قرر المفوض السامي هربرت بالمر الذي استبدل صموئيل اقامة مدرستين زراعيتين منفصلتين- واحدة للتلاميذ العرب بمنطقة طولكرم والأخرى للطلاب اليهود على سفوح جبل طابور: بالمر ادعى بأنه لبى بهذه الطريقة “متطلبات المجموعتين السكانيتين”. هذه السابقة- الفصل على اساس ديني واثني-قومي- بشرت بالنزعات التي ستشتد على مدى السنوات التالية، ومن هذة الناحية أيضاً سنة 1925 ممكن أن تسمى “سنة الصفر” للصراع اليهودي-العربي.
الموقع الجغرافي للمدرسة العربية لم يخلو من المعنى التاريخي هو الآخر. فمن جهة، قضاء طولكرم، الذي امتد على الحيز الواقع بين تلال السامرة من الشرق مروراً بمنطقة الشارون وحتى شواطئ البحر الابيض المتوسط ومنطقة نتانيا اليوم، كان معروفاً منذ أجيال بفضل المنتجات الزراعية المفتخرة التي أصدرها. اسم المدينة، المعروفة منذ فترة التلمود، والذي يعني بالعربية “الكرم الطويل” يدل بنفسه على طابع المنطقة ونشاطها الزراعي. من جهة أخرى، فقد خرجت من حقول طولكرم أيضاً أصداء مواجهة عسكرية عنيفة، ففي الحقول القريبة من الموقع الذي بنيت عليه المدرسة وقعت معركة طولكرم (19 سبتمبر 1918) التي شهدت مواجهة بين قوات فرق ال-60 (فيلق XXI ) البريطانية وبين الفرق العسكرية السابعة والثامنة للأتراك. وقد شاركت في هذه المعركة ثلاثة الوية مشاة من الجيش الهندي، كانت مكونة بغالبيتها من جنود مسلمين وسيخيين، رافقت قوات الجنرال النبي. هناك من يدعي بأن الرغبة في عدم القاء مهمة احتلال مراكز المدن الاسلامية على عاتق جنود مسيحيين جاءت “من فوق” لا سيما وأن القيادة البريطانية قد عملت كل ما في وسعها لتمنع تصوير المعارك كحملة صليبية حديثة.
النصب التذكاري البريطاني الذي شيد لتخليد من سقطوا في معركة طولكرم ما زال يقف حتى اليوم في حقول المدرسة كشهادة على الأحداث العنيفة. بشكل استثنائي، تم ذكر الجنود الأتراك الذين سقطوا في المعركة الى جانب الوحدات السيخية.
من يافا الى أنحاء الامبراطورية
فكرة اقامة مدارس زراعية تلاءمت مع توجهات التطوير لدى حكومة الانتداب. هذه المدارس تحولت لمواقع هامة لتعميم نماذج عمل مكثفة بالأرض وزراعة مختلطة. مدرسة خضوري في طولكرم لم تقل أهمية من هذه الناحية عن المدرسة اليهودية: الدعم الحكومي في تأهيل مزارعين يهود وعرب وخدمات الاستشارة الزراعية التي قدمتها محطات التجارب الزراعية في عكا ونابلس هدفت الى مساعدة حكومة الانتداب على تنمية نخبة محلية، وأخصائيي زراعة بشكل خاص، جميعهم رجال، والذين كان عليهم أن يعودوا الى بيوتهم مع نهاية التعليم ليقودوا مجتمعاتهم المحلية نحو التقدم الزراعي والاقتصادي.
المدرسة فتحت أبوابها للطلاب في عام 1931. من مجموعة الصور التي تركها خلفه المصور موشيه (نيكولاس) شفارتس بإمكاننا ان نطلع على بعض الممارسات الزراعية التي درست في مدرسة خضوري بطولكرم. اختيار مدراء شفارتس في مكتب المعلومات الانتدابي اصدار مجموعة صور ربما يرمز بذاته الى أهمية المدرسة الرمزية كموقع تنبت فيه حداثة الشرق الاوسط.
الكثير من الطلاب العرب لم يكونوا بحاجة لتأهيل خاص ليتعلموا كيف يحملوا منجلاً ولكن المدرسة افتخرت بتعليمها لكيفية تشغيل التراكتور والحصادة، استخدام المنحلة المتنقلة وإدارة مصنع ألبان حديث. في نفس الوقت، اقامة المدرسة في طولكرم ارتبطت بخطة أشمل وأوسع هدفت الى تطوير منظومة الشوارع وخط القطار بالمنطقة لخلق علاقة وطيدة أكثر بين المدينة والضواحي الزراعية، وخاصة لإيصال حليب البقر الذي أنتج في المدرسة والأبقار التي ربيت في حقولها الى مدن الساحل وميناء يافا بسرعة. من يافا- النقطة التجارية المركزية بالمنطقة- كان بالإمكان بأن توزع هذه المنتجات في أنحاء الامبراطورية كلها.
على الرغم من التحقق السريع والناجح ظاهرياً لرؤية المدرسة الزراعية، فقد رافقت التحديات والمشاكل المدرسة في طولكرم منذ بدايتها: كمدير المدرسة الاول تم تعيين موظف بريطاني، ه.م. هيلد، وهي الخطوة التي اثارت معارضة الطلاب وأدت، على ما يبدو، الى استبداله بعز الدين الشوا (1902-1969)، خريج جامعة بيروت وكامبريدج واحد اصدقاء الطفولة لخليل السكاكيني، والذي انتقل في وقت لاحق للعمل كضابط قضاء في حيفا وجنين. مشاكل أخرى اتضحت فيما بعد عندما أقر الكيميائي الذي احضر لتنفيذ استطلاع اراضي لصالح حكومة الانتداب بأن أرض المدرسة اشكالية وبأنه
بالإمكان استخدامها لزراعة العلف فقط: في مرحلة لاحقة اتضح بأن الخطط المختلفة لبناء الشوارع، الاسيجة وتغيير خط القطار تعارضت مع المنطق الحيزي للمدرسة (ومع خصوصية الطلاب خلال استخدامهم لبركة السباحة): الادارة الجارية للمدرسة كذلك لم تتم بسهولة وارتبطت بكثير من الاحيان بنقاشات حول الميزانيات المحدودة: الى هذه اضيفت نزاعات مختلفة بين ادارة المدرسة والحكومة حول ملكية الاراضي الزراعية والحق في استخدامها. تعريف المناطق بشكل مؤقت كمناطق غابات (Forest reserve areas) مكن الحكومة من منع السكن والعيش او الزراعة في تلك المناطق. هذه الآلية القضائية تحولت في كثير من المرات لوسيلة ناجعة لتغيير استخدامات الأرض وملكيتها حيث اتضح بأن مناطق الغابات تلك حولت مرة أخرى بنهاية المطاف ونقلت ليد “الصندوق القومي اليهودي” (“ككال”).
بيد أن التحدي المركزي الذي رافق المدرسة كان عدم الانتظام في عملها: فقد انقطع التعليم مرات كثيرة بسبب احتياجات امنية او كرد على “الأحداث”- كما سمت الحكومة التمرد العربي بين السنوات 1936-1939- التي أغلقت أبواب المدرسة في أعقابها لفترات متواصلة. بكثير من المعاني، الرد البريطاني الشديد يتعلق بحقيقة اعتبار المدرستين، اليهودية والعربية، كمؤسسات حكومية، وفي الحالتين كان هؤلاء طلاب المدارس الذين احتجوا، بشكل منفصل ولكن موازي، على تفضيل الادارة خدمة مصالح بريطانية عوضاً عن احتياجات الطلاب. ضمن احداث التمرد عام 1936 تصاعدت هذه النزعات، وتحولت المدارس نفسها لهدف للاعتداءات وحرق المنشآت. في تلك الايام العاصفة ازداد الفرق بين المدرستين كذلك: اسحاق ساديه بدأ يجند الشباب، ومن ضمنهم طلاب خضوري، للكتائب التي أقامها في اطار منظمة “الهغناه” بموافقة البريطانيين. في الوقت ذاته، انضم عز الدين الشوا، مدير المدرسة العربية سابقاً، لقوات فوزي القاوقجي المتمردة.
موظفو حكومة الانتداب بدؤوا يتعاملون مع نشاط المدرسة في طولكرم بريبة كبيرة: احد التقارير الانتدابية يصف الحريق الذي شب داخل المدرسة في طولكرم خلال الأحداث، ورفض الموظفين شراء أثاث جديد للمدرسة- كراسي وطاولات تعليم- عوضاً عن تلك التي حرقت كعمل احتجاجي من طرفهم. عدا عن ذلك فقد قام الجيش البريطاني “باحتلال مناطق المدرسة” (بهذه الكلمات) بحسب احتياجاته. آليات عدائية أخرى لقمع التمرد ظهرت من حول المدرسة وتم تبنيها بمرور السنين من طرف “جيش الدفاع الاسرائيلي”. في عام 1937 فر عز الدين الشوا من البلاد ومكث حتى 1947 في سوريا والعراق. في 1948 عاد الى البلاد وشارك في المعارك ثم شرد الى لبنان وبقي هناك لاجئاً حتى مماته.
بعد ال-48 فقدت المدرسة قسماً من أراضيها التي وقعت في الجانب الغربي من خط اتفاقيات وقف اطلاق النار وتحولت لجزء من دولة اسرائيل السيادية. المدرسة استمرت بالعمل ولكن ككلية تحت رعاية أردنية. لاعبي فرق كرة القدم في مدرستي خضوري، اليهودية والعربية، توقفوا عن منافسة بعضهم البعض كما كان في السنوات الأولى. بدلاً عن ذلك، كما تظهر صور من تلك الفترة، نظمت لقاءات بين فريق طولكرم وبين فرق أخرى من العالم العربي. من بين خريجي المؤسسة هناك وزراء في حكومات الأردن وايران، من ضمنهم عدنان بدران، العالم الأردني الذي تولى رئاسة الحكومة لفترة معينة. عبد الله يوسف عزام من جماعة “الاخوان المسلمين” الذي أصبح مع الأيام أحد مهندسي منظمة القاعدة كان أيضاً من بين خريجي المدرسة.
حرم تحت الاحتلال
الكلية استمرت بعملها الجاري أيضاً تحت الاحتلال الإسرائيلي. في عام 2007 تمت ترقيتها لدرجة جامعة، وهكذا تحولت للأخت الصغيرة (حيث يتعلم في الجامعة حوالي ال- 7000 طالب وطالبة) للجامعات الفلسطينية الكبيرة القدس، النجاح وبير زيت. اتفاقيات اوسلو لم تساعد الكلية على الازدهار. على العكس، ففي أعقاب التقسيم الجديد للأراضي، اضطر مدراء الكلية على التعامل مع فصل قسري ومصطنع بين منطقة المباني في الحرم والتي اعتبرت منطقة A بحسب الاتفاقيات، وبين الحقول التي أصبحت ضمن مناطق C. النصب التذكاري البريطاني الذي بدا في الماضي وكأنه يقف وسط حقول تمتد حتى البحر، يقف اليوم على مسافة بضعة عشرات الأمتار عن جدار الفصل الذي يلف شارع رقم 6 والحاجز العسكري القريب منه.
منذ عام 2002 بدأ الجيش بإجراء تدريبات في المنطقة التي صودرت من الحرم وتحولت لمناطق اطلاق نار. قرب هذه من الحقول الزراعية وأصوات اطلاق النار التي سمعت جيداً في صفوف التعليم تسببت بمواجهات متكررة بين الطلبة وبين قوات الجيش والتي انتهت بكثير من الأحيان برد عسكري شديد وإصابات بالأرواح والممتلكات. دخول قوات الجيش للحرم تحولت لمشهد متكرر خلال سنة 2015، حيث تم الاعتداء على الحرم، بحسب الطاقم التدريسي في جامعة خضوري، 130 مرة.
وقد تجلت العبثية في القصة في نفس الفترة اثر محاولة مندوبي الجامعة الذين سعوا الى الحد من المواجهات المتكررة بواسطة اقامة جدار يفصل بين الجنود والطلبة الذين يلقون الحجارة: فجاء رد سلطات الجيش التي رفضت هذه الامكانية بشكل قاطع حتى أنها صادرت الجرافة التي كان من المفترض أن تستخدم لهذا الغرض.
على غرار مدرسة خضوري اليهودية، قصة جامعة خضوري في طولكرم ممكن أن تستخدم كمثل. الأرض الجريحة التي تقف عليها الجامعة الصغيرة هي بمثابة قطعة تاريخ مصغرة، بضعة عشرات الدونمات التي شهدت الكثير من التقلبات، العواصف والآمال المستترة للشرق الاوسط في القرن العشرين. طموح الياس خضوري بأن يحمل هؤلاء الذين يمشون في الحقول من الطرفين معهم التطوير، الحداثة والازدهار ارتطمت بواقع صعب من الصراع والفصل. الضباب ما زال يكتنف مستقبل حقول جامعة خضوري في طولكرم حتى اللحظة.
*أعد النص ابان المؤتمر الذي عقد في جامعة حيفا بتاريخ 28.11، تحت عنوان “جامعة خضوري: من الانتداب إلى الإحتلال” والذي استعرض خلاله العديد من الباحثين والباحثات قصة جامعة خضوري الخاصة بجوانبها التاريخية والاجتماعية وبسياقها الحالي كجامعة تحت الاحتلال.