هل تتناقض العنصرية مع قيمنا حقاً؟
قبل مدة سمعت قصة شخصية من ممثل فلسطيني كان أحد النجوم في مسلسل تلفزيوني إسرائيلي رائج قبل سنوات كثيرة. في يوم من الأيام اوقفه رجل في الشارع وعانقه بافعال وتقدير، ومن ثم سأله: “قلي لي، كيف تستطيع التحدث بالعربية بهذه الصورة؟”. الممثل أجابه: “ماذا تعني، أنا عربي!”. الرجل أخفض عينيه وقال: “اوه خسارة..”. بهذه اللحظة، قرر الممثل بألا يعمل في إسرائيل بع ذلك.
تعالوا نتصور عالم مثالي يحقق فيه الخطاب العام والبرامج التربوية والاجتماعية التي تحارب العنصرية النجاح. هل كانت هذه لتمنع الموقف المذكور؟ عندما نتحدث ونربي ضد العنصرية، ماذا نقصد؟ ما هو هذا الشيء السيئ الذي يسمى عنصرية والذي نريد تغييره؟
في موقع وزارة التربية كتب بخصوص اليوم العالمي لمحاربة العنصرية (الذي يصادف اليوم 21.3): “في السنوات الأخيرة نشهد ظاهرة متسعة من العنصرية بالمجتمع الإسرائيلي. علاقة من الكراهية، التمييز، النبذ، والتشهير لمجموعة ما بسبب لون البشرة، الطائفة أو الأصول. ظاهرة العنصرية تتناقض مع قيم ديمقراطية كالكرامة والمساواة. كما أنها تتجلى بأحيان كثيرة بمظاهر عنف صعبة”. هذا التصريح يعكس التوجه السائد في المجتمع حول “ظاهرة العنصرية” التي يتم تصويرها كظاهرة خارج حدود المسموح، المقبول والمتبع وتتناقض مع القيم التي يرتكز عليها المجتمع. ولكن هل تتناقض العنصرية مع قيمنا حقاً؟
العنصرية هي بناء اجتماعي يموضع الأبيض، وفي إسرائيل اليهودي أيضاً، برأس الهرم، كما يموضع النظام الأبوي الرجل وكما تموضع الغيرية البحتة المغاير جنسياً. اذا ما فحصنا قيم المجتمع بحسب الأدلة، وليس بحسب التصريحات، لوجدنا بأنه يحافظ على نظام اجتماعي عنصري واضح بدرجة كبيرة. الثقافة تعزز وتستنسخ هذا النظام بشكل يومي. بالإمكان الوقوف على ذلك من خلال التمعن بمعايير الجمال والجودة: من يحصل على تمثيل في الحيز العام، بأية طريقة، ومن يغيب عنه؟ من تدرس قصته وتحكى ومن لا؟ من يحتل مكان أكبر ومن يتم اقصاءه وإسكاته؟ من لديه الحق لأن يكون فرداً ومن يعتبر دائماً وأبداً ممثلاُ لمجموعة ما؟.
إضافةً إلى ذلك، هناك لدى المجتمع آليات تضمن الحفاظ على النظام الاجتماعي- بواسطة القوانين، الأنظمة، الاجراءات وغيرها- وبالإمكان رؤية نتائج هذه في كل الأجهزة: في التربية (من يحصل على شهادة “بجروت” كاملة ومن لا؟ من ينتسب لمساق التعليم النظري ومن للمهني؟ من يتواجد في الجامعات ومن لا؟)، في الصحة (من يعيش أكثر من من؟ من معافى أكثر ومن مريض أكثر؟ من لديه متناولية للخدمات ومن لا؟)، في القضاء (من يعاقب بشكل مشدد ومن يحصل على تسهيلات وعلى عفو؟ من يجلس في السجن ومن لا؟)، في الشرطة (من يعتقلون بشكل يوم ومن لا يعتقلون؟)، في الاسكان (من يسكن أين، بأية ظروف)، في الاقتصاد (من فقير ومن غني؟)، في السياسة (من يسيطر ويقرر في السياسة ومن لا؟) وما إلى ذلك. اذا افترضنا بأنه لا توجد من الناحية الجينية ميول طبيعية لدى أية مجموعة للإجرام، المرض وعدم النجاح، بإمكاننا أن نستنتج بأن المجتمع خلق هرمية معينة، وبأن كل الآليات تعمل بصورة مدمجة لكي تستبقي هذه: الهرمية تنعكس في المعطيات.
جميعنا- ان كنا نربح أم نخسر من هذه الطريقة- نذوت هذه البنائية ونستمر في استنساخها واستبقائها- غالباً دون وعي أو قصد بأن هذا ما نقوم به. عملية التذويت هذه عميقة لدرجة أنها تخلق أحكام مسبقة تبدو طبيعية للغاية. كما أن المجتمع يوفر لنا مجموعة من التبريرات لوجود هذا النظام الاجتماعي- “هذا متبع في ثقافتنا”، هو أكثر تبرير شائع، ولكن هناك تكتيكات أخرى للإنكار واتهام الضحية، بينما تختطف قصص النجاح القليلة لإثبات انصاف النظام القائم.
بهذه الطرق يكرس المجتمع نظام اجتماعي وحدود تقرر من في الداخل ومن يبقى في الخارج، من في الأعلى ومن في الأسفل. من يشعر بالأمان في مكانه، يستطيع أن يتحدث عن قيم عليا دون أن يخاطر بمكانته ووضعه. أما من يتواجد على الحد بين الداخل والخارج، عليه أحياناً أن يحارب على مكانته، وأن يمسك الحدود بقوة كي يكون في الداخل. هذا الامساك بالحد ممكن أيضاً أن يكون عنيفاً وفظاً وبشعاً. ولكن اذا ما انشغلنا فقط في شجبه، ولم ننظر إلى من وما يحمي، لن ندحر العنصرية بل سنقوم فقط بتغطيتها.
معاينة المشكلة بهذه الطريقة تستدعي تعاملاً مختلفاً للغاية. فهي لا تنشغل في وسم من هو عنصري وما هو التصرف العنصري، ولا بالشجب وبترسيم حدود الخطاب. عوضاً عن ذلك، هي تستدعي استقراءاً عميقاً وتغييراً عميقاً للنظام الاجتماعي القائم، وتشجع التفكير النقدي الذي يكشف ويتحدى هذا النظام، مكاننا في داخله ومكانه في داخلنا، وتحثنا على أن نتصور كيف يبدو المجتمع غير العنصري، وماذا علينا وباستطاعتنا أن نفعل لكي نخلق مجتمعاً من هذا النوع.
الموقف الذي وصفته في الافتتاحية لم ينطوي على عمل عنيف او متطرف، ولا على تمييز فظ. كانت هناك كلمتان فقط وعناق. بحسب التوجه الذي ينظر إلى العنصرية كظاهرة من مظاهر الكراهية، ليس هناك الكثير ما نفعله بهذا الموقف. في حين أن التوجه الذي يرى بالعنصرية بناءاً اجتماعياً يكشف الكثير وبإمكانه أن يكون نقطة انطلاق خصبة للتعلم والتغيير.
زميلة في مدرسة “مندل” للقيادة التربوية. حاملة لقب دكتور بالثقافة من جامعة “UCLA“.