طبقات من الدين والتعصب تخبأ التاريخ الأدومي للخليل
في فورة النقاش بين الإسرائيليين والفلسطينيين حول السؤال ان كانت المدينة مقدسة أكثر لهؤلاء أم لهؤلاء، يُنسى شعب واحد على الأقل كانت له أهمية كبيرة أيضاً في تاريخ المدينة، ألا وهو الشعب الأدومي. على الأقل من وجهة نظر الشعب الأدومي، الذي لا نعرف اليوم من هي سلالته، فإن الحق التاريخي في مدينة الخليل يعود له، وربما بالإمكان اتهامه أيضاً بتحويل “مغارة المكفيلة” (الحرم الإبراهيمي) لموقع صراع، سفك دماء ونزاع.
البحث الأثري في الخليل لا يوفر لنا معلومات كافية حول تاريخ المدينة إلا أن بعض الباحثين يعتقدون بأن مجمع القبر المعروف لنا اليوم ك”مغارة المكفيلة” والذي يتواجد في قلب مدينة الخليل كان منظومة من القبور التي يعود تاريخها إلى 2200 قبل الميلاد تقريباً. كانت هذه قبور كبيرة حفرت في الصخر وقسمت أحياناً إلى غرفتين. قبل ألفي عام، على ما يبدو، بني فوق مجمع القبور هذا مبنى القبر الفخم المعروف لنا اليوم ك”مغارة المكفيلة”.
في العصر الهلنستي والروماني، كانت مدينة الخليل جزءاً من مقاطعة آدوميا وكانت غالبية سكانها من الأدوميين، وعليه اقترح بعض الباحثين بأن “مغارة المكفيلة” بنيت لصالح المجتمع الأدومي. ويسود اجماع بين الباحثين حول الافتراض الذي يفيد بأن من بنى القبر الفخم كان هيرودس، حاكم يهودا الذي انحدر من عائلة أدومية. لا يوجد اثبات أثري لهذا الافتراض ولكنه يعتمد على المعلومات المتوفرة عن هيرودس. عائلة هيرودس، كما هو معروف، اعتنقت اليهودية إلا أن هيرودس، بمكر سياسي، كان يذكر يهوديته أمام اليهود وجذوره الأدومية أمام الأدوميين، وقد بنى بيت المقدس في القدس من أجل اليهود و”مغارة المكفيلة” في الخليل من أجل الأدوميين.
البحث التاريخي يتحدث عن فرض اليهودية على الأدوميين بغير إرادتهم بعد احتلال آدوميا من قبل يوحنان هوركنوس الحشموني. في المقابل، يدعي عدد من الباحثين بأن اعتناق اليهودية تم بموافقتهم واعتمد، إن لم يكن كله فبعضه، على القرابة الثقافية والعادات المشتركة التي سهلت على الأدوميين قبول الديانة اليهودية. باحثون آخرون يدعون بأن جزءاً كبيراً من الأدوميين لم يعتنق اليهودية أصلاً. في كل الاحوال فقد حفظت الهوية الاثنية للأدوميين على الأقل طوال فترة بيت (المقدس) الثاني. مما يعني بأن “مغارة المكفيلة” كانت بلا شك مكاناً مقدساً للأدوميين، ربما أكثر مما كانت لليهود، إن كان بسبب التقاليد القديمة او بسبب المعتقدات المحلية. الشعب الأدومي، على غرار شعوب كثيرة، اختفى من التاريخ وأهم ما بقي منه هو المباني والمدن التي بناها أكبر ملك أدومي بالتاريخ- هيرودس. اليوم، يقوم العرب واليهود على حد سواء بالادعاء بأن هيرودس ينتمي لسلالتهم: اليهود يقولون بأن والده اعتنق اليهودية ولهذا فهو يهودي بينما يدعي العرب بأن أمه كان نبطية أي تنحدر من قبائل معرفة مع القبائل العربية.
من يكتب التاريخ هم المنتصرون أو على الأقل من ينجحون في البقاء لكي يحكوا القصة. هكذا نجد بأن السيطرة على الخليل وعلى قدسية “مغارة المكفيلة”، بمرور مئات وآلاف السنين بعد الأدمويين، يحددها من يحكم في كل فترة. في العصر البيزنطي بنيت هناك كنيسة، في العصر الإسلامي القديم بني مسجد وكان كما يبدو مكان صلاة لليهود أيضاً، أما في العصر الصليبي فتحول المكان مرة أخرى لكنيسة. آخر وأهم تغيير بالمغارة تم بالعصر المملوكي حيث اضيفت أجزاء أخرى للقبر وتم تصميمه بأسلوب مملوكي- الأسلوب الذي يدمج بين أحجار بألوان مختلفة، غالباً الأبيض والأحمر والأسود. أسلوب البناء المملوكي هو ربما أكثر ميزة معمارية بارزة يلاحظها من يزور “مغارة المكفيلة” من الداخل بينما يبرز في الخارج بشكل واضح أسلوب البناء الروماني الذي يذكر بأسلوب البناء بأيام بيت (المقدس) الثاني في القدس وبئر حرم الرامة شمالي الخليل.
الاحتلال الإسرائيلي ساهم في “مغارة المكفيلة” بالأساس بإضافة نقاط الأمن، نظام التفتيش للزوار وتقسيم مناطق الصلاة بين اليهود والمسلمين. لحسن الحظ بأن المعمارية المميزة للمبنى قائمة حتى اليوم. ولكن أكثر من أي شيء آخر يبدو بأن مدينة الخليل أسيرة صراع ديني حيث تأتي في كل فترة مجموعة تعمل على محو من سبقتها. في واقع من هذا النوع، يشكل الماضي الأدومي تهديداً كذلك ولهذا لا يتم بحثه والحديث عنه بما فيه الكفاية. المعلومات التاريخية حول المدينة الأدومية منقوصة وهناك الكثير مما يجب بحثه ولكن للقيام بذلك يجب البحث عن الخليل الأخرى- تلك المخبأة تحت طبقات من الدين والتعصب التي تكرر نفسها.
عالم آثار ومدير عام منظمة “عيمك شافيه”