سياسة إسرائيل "المحسوبة" في غزة
نشر سامي ترجمان، قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي سابقاً، مقالة له مؤخراً في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى يحلل فيها الامكانيات المختلفة التي تقف أمام إسرائيل للتعامل مع الوضع في غزة. الامكانيات التي عدها ترجمان هي: أ. التدخل العسكري لإنهاء حكم حماس. ب. انهاء حكم حماس بواسطة تشجيع أزمة داخلية بشكل جلي وخفي عن طريق خلق مقاومة وقوى بديلة لحماس داخل القطاع. ج. تحسين الوضع الاقتصادي في القطاع وقبول حقيقة سيطرة حماس على القطاع بالتوازي مع الاستمرار في ممارسة الضغوط لنقل الصلاحيات في غزة ليد السلطة الفلسطينية. د. الحفاظ على الوضع القائم كما هو مع الامتناع عن وقوع أزمة انسانية.
أفضل سياسية بنظر ترجمان في الظروف الحالية هي الامكانية الثالثة: تحسين الوضع الاقتصادي في غزة. بيد أن الجزء الأهم في المقالة هو تناوله للامكانية الرابعة التي تنص على الحفاظ على الوضع القائم. ترجمان ينسب العديد من الأفضليات لهذه الامكانية:
- تجسيد عدم قدرة حماس على الحكم: “كلما تهاوى الاقتصاد في غزة، كلما بدى نموذج حكم حماس فاشلاً في أعين سكان القطاع والعالم”.
- دعم مكانة السلطة الفلسطينية: “كلما مر الوقت، كلما تحولت غزة لعبرة وتحذير ليهودا والسامرة حول أفضليات حكم السلطة الفلسطينية على الرغم من مساوئها وفسادها.. غزة هي تذكير يومي بأن الوضع ممكن أن يكون أسوأ. بهذه الصورة، الحياة الصعبة في غزة تساعد على خلق استقرار في الأراضي (أي الضفة)”.
- الحد من موارد حماس: بما أن تعزيز القدرات العسكرية لحماس يتعلق بوضع الاقتصاد في غزة، فإن الاقتصاد الضعيف يعني الحد من تعزيز قدراتها.
- تحسين الوضع في غزة سيمنح شرعية ونجاحاً سياسياً لحكم حماس، الأمر الذي سيشكل تهديداً “ليس فقط على السلطة الفلسطينية انما أيضاً على الدول السنية المعتدلة”. أي أن نجاح حماس، كامتداد لحركة “الاخوان المسلمين”، يهدد الحكم في دول مثل السعودية، الامارات ومصر.
فيما يتعلق بإمكانية الحفاظ على الوضع القائم في غزة، يوضح ترجمان بجملة مركزية: “ظاهرياً، هذا هو النموذج الذي تعتمده إسرائيل اليوم”. مما يعني بأن ترجمان يشرح بأن سياسة إسرائيل الحالية في غزة هي ابقاء الاقتصاد الغزي على ما هو عليه واضعافه حتى بحيث لا يتسبب ذلك بأزمة انسانية. ولو أنه يحصر ذلك عندما يضيف بأن هذه السياسة لا تعكس استراتيجية واعية بقدر ما تعكس حالة الجمود العام وسط متخذي القرارات في إسرائيل أمام المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في غزة، وبأن المشكلة بأنه “على الرغم من أنه من الممكن احتساب وتوفير احتياجات العيش الاساسية للسكان، فإن تراكم المذلة، فقدان الأمل والغضب تحت السطح- الى جانب الايديولوجية الاسلامية لحماس- تبقى غير مرئية حتى لحظة انفجار العنف”.
يجب وضع تحليل ترجمان في سياقه الصحيح. أولاً، الفكرة التي تقول بأن المذلة، فقدان الأمل والغضب وسط سكان غزة مقابل التدهور الانساني للقطاع تبقى “غير مرئية” حتى انفجار العنف هي فكرة منقطعة عن الواقع لدرجة أنه من الصعب بأن نصدق بأن شخصاً أشغل منصباً مركزياً في صياغة وتطبيق السياسة في غزة يكتبها بجدية. مع ذلك، فمن الجدير بأن نقتبس هنا أقوال عاموس هرئيل في صحيفة “هآرتس” قبل حوالي العام: “في جهاز الأمن الإسرائيلي يعترفون بأنهم بدؤوا يدركون بوقت متأخر ما كان يجب أن يدركوه قبل عملية “الجرف الصامد” (الحرب على غزة عام 2014) عن العلاقة الوطيدة بين الوضع الاقتصادي في غزة وإمكانية التصعيد العسكري.” مهما يكن من الصعب تصديق ذلك، قد يكون الأشخاص الذي من المفترض بأن يعرفوا عن الحاصل في غزة بأكبر قدر معميين بصورة تثير الدهشة عن الوضع الفعلي وانعكاسات سياستهم.
ثانياً، الهدف الأصلي من الحصار على غزة، كما شرحت السفارة الأمريكية في إسرائيل بوثيقة نشرتها “ويكيليكس”، كان بالتأكيد استراتيجية واعية: “مسئولون اسرائيليون كبار أكدوا لمسئولين كبار في السفارة بمناسبات كثيرة بأنهم يخططون لإبقاء الاقتصاد في غزة بأدنى مستوى ممكن بحيث لا يتم التسبب بأزمة انسانية” و”ا، يبقوا غزة على حافة الانهيار دون دفعها ما بعد الحافة”. هذه الوثيقة دعمت أخباراً وشهادات أخرى حول الطريقة التي أجرت فيها إسرائيل حسابات مفصلة بالفعل عن الحد الأدنى الذي يجب توفيره لسكان غزة كجزء من سياسة ضعضعة الوضع الاقتصادي في القطاع.
أي أن ما يعرضه ترجمان كإمكانية نظرية وكسياسية غير نظامية يعتمد عملياً على استراتيجية واضحة كانت من وراء قرار إسرائيل فرض الحصار على غزة. ترجمان يُفصل المنطق الذي يقف من وراء هذه الاستراتيجية والتحليل الذي يقترحه هو مثير بلا شك. فهو يوضح (مرة أخرى) بأن الهدف من وراء الحصار على غزة، خلافاً لمى قيل وما يقال للجمهور الاسرائيلي، كان منذ البداية أبعد بكثير من منع الارهاب او اعادة جلعاد شاليط. هدف الحصار بأن يوضح للفلسطينيين تبعات اختيار حماس، وبأن يذكرهم بشكل يومي بأنه على الرغم من النقد الذي يحملوه للسلطة فمن الممكن بأن تكون الأوضاع أسوأ ومن الأجدر بألا يثيروا الشغب ضدها على الرغم من مساوئها. المثير بدرجة لا تقل عن هذا هو تطرق ترجمان لضرورة حماية ليس فقط إسرائيل والسلطة إنما كذلك دول عربية “معتدلة”، أي أحكام مستبدة ووحشية مثل مصر، السعودية وقطر أمام التهديد الذي قد يشكله مثال ناجح للحكم والنمو الاقتصادي.
من الممكن أن نقبل على الأقل بشكل جزئي ادعاء ترجمان بأن عناصر مثل الخمود والجمود الفكري تحرك السياسة الاسرائيلية في غزة بالسنوات الأخيرة بدرجة لا تقل عن الحسابات الاستراتيجية. إلا أن حقيقة كون الخيار الاول الذي يعتمده متخذو القرارات في إسرائيل هو دفع غزة إلى حافة ازمة انسانية هي فاضحة بحد ذاتها. مهم أيضاً بأن ننتبه بأن هذا هو الخيار الاول ليس فقط منذ سيطرة حماس على القطاع: موشيه ديان صاغ في جلسة سكرتارية قائمة عمال اسرائيل (المسماة باختصار “رافي”) في أيلول 1967 السياسة المحبذة تجاه الفلسطينيين في الأراضي التي احتلت قبل ذلك بثلاثة أشهر:
“تعالوا نقول (لهم) لا حل لدين، واستمروا بالعيش مثل الكلاب، ومن يشأ سيذهب. وسنرى ماذا ستعطي هذه العملية. وهي تعطي حالياً.. ربما سنقف بعد خمس سنوات مع 200 ألف أقل وهذا شيء عظيم.”
في نفس الشهر اجمعت لجنة المدراء العامين المسئولة عن صياغة السياسة البيروقراطية في الأراضي (المحتلة) بأنه يجب السعي إلى خلق ظروف اقتصادية تدفع باللاجئين إلى مغادرة غزة ولكن “تحضير خطة تبدو بنظر العالم كبناءة”. هناك اذاً “باع طويل” للسياسة الإسرائيلية في الأراضي (المحتلة) التي تعتبر دفع الفلسطينيين لحافة أزمة انسانية وسيلة شرعية من أجل تحقيق الأهداف السياسية لإسرائيل عندما تقتضي الحاجة.
بتصرف عن باحث مهم في سياسة الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، بإمكان تلخيص ذلك على النحو التالي: تهدف سياسة إسرائيل في غزة إلى خدمة أمنها، سياستها الداخلية، طموحاتها التوسعية ونموها الاقتصادي، وقد تم اعتماد استراتيجيات ووسائل مختلفة بفترات مختلفة لتحقيق هذه المصالح. ولكن هذه التعليلات تبقى جزئية في نهاية الأمر دون الاعتراف بأن ما يقف في مركز السياسة هو الايمان، بدرجة أكثر أو أقل وعياً، بأن الفلسطينيون هم شعبة فرع متدني أكثر للنوع الانساني.
د. شموئيل لدرمان زميل بحث في منتدى التفكير الاقليمي.