سياسة اضعاف الضعفاء في "الأحياء"

في واقع عادل كان من المفترض بأن يصبح سكان الأحياء أصحاب البيوت والأراضي. عوضاً عن ذلك، الصق بهم نعت الغزاة والخارجين عن القانون- كما يليق بالشرقيين، العرب والأثيوبيين في الدولة.
عوزي لويا

 

السيدة نوريالي هي امرأة متقدمة بالسن تم اخلائها مؤخراً من بيتها في احد الأحياء الجنوبية لتل أبيب. في يوم الاخلاء قامت وحدات “اليسام” الخاصة بإحاطة البيت ولم تسمح للمتظاهرين بالتشويش على المفاوضات الأخيرة التي أجريت مع العائلة. تمت هذه المفاوضات بصورة عديمة الرحمة، تحت ممارسة الضغط وبتوقيت دقيق- بينما انتظرت خارج البيت شاحنات لنقل محتويات البيت لمخزن مؤقت: “اذا لم تقبلي الحل المقترح سنقوم بإخلائك فوراً دون تقديم أي تعويض”، قالوا لها. السيدة نوريالي وقعت على الاتفاقية بينما أجهشت بالبكاء. “الأغنياء أقوياء على الضعفاء”.

الكثير من التواقيع تمت بحسب هذا النموذج “التجاري” وبتغطية قانونية في الأحياء التي يتم تعريفها ك”أحياء غير منظمة”. وتتواجد هذه في تل أبيب أو بالقرب منها وهي: جفعات عمال، أبو كبير، تل جيبوريم، نس لجوييم، سومييل، حي الأرجازيم، كفر شاليم وحي الساعة في يافا. ليس الحديث عن أحياء سكنية تقع بمحاذاة سكة القطار بل عن بيوت خاصة تتواجد في قلب المدينة الكبرى الأغنى في إسرائيل حيث تعتبر أسعار الأراضي الأعلى في الدولة. تجيب هذه الحقيقة على جزء من السؤال حول السبب من وراء ظاهرة اخلاء مواطنين يهود من بيوتهم بعد أن سكنوا فيها لعشرات السنوات، أحياناً منذ قيام الدولة. الجزء الثاني من الجواب يتعلق بأصول هؤلاء- مع العلم بان غالبيتهم هم يهود قادمين من الدول العربية.

في موجات الهجرة التي قدمت بسنوات الخمسينات، أرسل غالبية اليهود القادمين من الدول العربية إلى بلدات التطوير، المناطق الحدودية وهوامش المدن المركزية في اطار سياسة التوزيع السكاني. في الحالة التي أمامنا، فقد تم اسكانهم في جنوب تل أبيب لكي يشكلوا فاصلاً ودرعاً بشرياً بين تل أبيب “البيضاء” ويافا العربية. مع السنوات ومع تحسن الوضع الأمني، ارتفعت أسعار هذه العقارات والأراضي وبدأت دولة إسرائيل ووكلائها يطمعون في أخذ آخر ما تبقى للفقراء.

 كافة الوسائل مشروعة

مع انتهاء “حرب الاستقلال” كانت مساحة دولة إسرائيل 20،770 كم (أكثر من 4.5 مليون دونم)، 77% منها كانت أملاك غائبين. الغائبون، وهم فلسطينيون غادروا أو طردوا خلال الحرب، تركوا ورائهم ممتلكات كثيرة تشمل بيوت، أراضي، مصالح تجارية، مصانع، حسابات بنوك وأملاك منقولة. وقد أسكنت الدولة في بيوتهم جزء من اليهود الذين قدموا إلى الدولة الجديدة. على مدى السنوات، تم تنظيم حقوق الملكية على البيوت التي أسكن فيها هؤلاء القادمين في أنحاء البلاد باستثناء سكان الأحياء في تل أبيب القادمين بغالبيتهم من الدول العربية كما ذكر سابقاً.

في مذكرة سرية لزلمان ليفشيتس (مستشار رئيس الحكومة بن غوريون لشؤون الأراضي والحدود) من يوم 18.3.1949 تناقش الحاجة لتنظيم أملاك الغائبين بشكل قانوني لكي يصبح بالإمكان استخدامها بشكل ثابت لاحتياجات التوطين، الاسكان والترميم الاقتصادي، وردت الأمور التالية:

“قيام الكثيرين من القادمين بالقبض على المدن والبلدات العربية، والاستيطان الزراعي الشاسع على أراضي القرى المهجورة هي حقائق يجب أن تبقى على ما هي. في كثير من الحالات لم تعد هذه الأماكن خالية لأنها أشغلت من قبل سكان يهود يضربون جذوراً عميقة في الأرض ويتأقلمون مع ظروف الحياة الجديدة بسرعة مذهلة لدرجة ارتباطهم الروحي مع مكان السكن الجديد. عدا عن أنه لن تكون هناك أية نية لدى حكومة إسرائيل لإخلاء هذه الأملاك من المستوطنين الجدد، فإن كل محاولة كهذه من الممكن بأن تخلق مشاكل خطيرة وستؤول إلى الفشل المطلق. لن تتواجد القوة العسكرية المطلوبة لفصل السكان اليهود عن النقاط التي سيطروا عليها لإخلاء مكان للاجئين العرب الغائبين اليوم عن البلاد.”

ولكن منذ اقامة الدولة تم اخلاء عشرات آلاف المواطنين من بيوتهم في تل أبيب بشكل منهجي دون اعطائهم أي تعويض، وبأحسن حال قدمت لهم تعويضات بائسة او تم توجيههم لمساكن “عميدار” (شركة الاسكان الجاهيري). ينبع هذا القرار من رؤية هؤلاء المواطنين كمن يمكن اقتلاعهم من بيوتهم كأعشاب ضارة. عدم تنظيم الحقوق سمح عملياً بتعريفهم ك”غزاة” وأصبحت هناك شرعية لاتخاذ اجراءات قانونية وإصدار اوامر اخلاء لطردهم من الأراضي- غالباً لصالح مشاريع عقارية تدر الأموال في جيوب الدولة، البلدية والمقاولين. هناك حالات قامت فيها الدولة ببيع الأراضي للمبادرين الذي بدؤوا بإجراءات قانونية لإخلاء السكان، أما حارس أملاك الغائبين فقد قام بنقل أحد الأحياء (حي الساعة في يافا)، دون علم السكان، ليد الوقف الاسلامي الذي يدار من قبل وزارة المالية وبهذا صادر حقهم بامتلاك العقارات.

كافة الوسائل مشروعة وتتم بموجب القانون لحرمانهم من بيوتهم. تقوم المحكمة في أغلب الحالات بتحديد مصير سكان الأحياء من خلال اصدار أمر اخلاء دون الحاجة للتعويض بسبب عدم تنظيم الحقوق على الأراضي. هناك حالات تقوم فيها المحكمة حتى بإلزام من يتم اخلائهم بتغطية التكاليف القانونية، تكاليف استخدام الأرض أو تكاليف هدم منازلهم. أيضاً المحكمة وأيضاً شرطة إسرائيل هي أدوات تخدم السلطة التشريعية لقمع وحرمان السكان من بيوتهم وأراضيهم وللحفاظ على الامتيازات التي تتحلى بها الصهيونية الدينية والعلمانية في الكيبوتسات، الموشافيم والمستوطنات.

قصص الحرمان والتمييز بحق القادمين من الدول العربية لم تنحصر اذاً على السنوات الاولى من اقامة دولة إسرائيل. سياسة الأراضي الانتقائية على أساس الأصول الاثنية التي حالت دون أية امكانية للارتقاء الاجتماعي ما زالت قائمة حتى اليوم.

حي واحد فقط حصل على حل وتعويض بعد الاخلاء وهو حي لفتا في القدس. حول ذلك قال وزير المالية، موشيه كحلون، في يوم توقيع الاتفاق: “لا أستيطع تحمل صفة الغزاة.لا يعقل بأن نتعامل مع المستوطنين كرياديين عندما نحتاجهم وكغزاة عندما نحتاج الأرض. لا يمكن تحويل مصلحة اقتصادية لأيديولوجية. لا يمكن أن نأتي إلى الناس وننعتهم بالغزاة لكي نقلص التعويض الذي يستحقونه. هذا ليس مقبولاً علي.. أنا أعي ما يمر به سكان الأحياء، لقد جئت من هناك، ولكنني كنت محظوظاً وأنا أدعوكم- تعالوا الينا، سنجلس ونحل سوية كل المشاكل”. بيد أن وزير المالية، مثله مثل بقية أعضاء الائتلاف، لا يضع الآن أية سياسة اجتماعية لإصلاح الظلم التاريخي الواقع على الأحياء ولمداواة جراح الاستيعاب. العكس هو الصحيح، فقد ذكر موظف كبير في وزارة المالية حالة لفتا عندما توجهت له بخصوص تعويض سكان الحي الذي أمثله في يافا، حي الساعة. حيث قال لي بأن الدولة لم تستيقظ في أحد الأيام وتقول “لقد عاني هؤلاء الناس ل- 70 سنة، تعالوا نخليهم وندفع لهم تعويضاً”. الدولة كانت مستعدة لدفع التعويض فقط لأنها كانت بحاجة لأراضيهم لتوسيع الشارع. كان لدى الدولة سبباً لتعجل في حل المسألة.

في السنتين الأخيرتين، التقى ممثلو الأحياء مرتين بالوزير كحلون. من ضمن أمور أخرى، نعت موظف كبير، وهو مندوب في مجلس دائرة أراضي إسرائيل، الممثلين ب”الحمولة” وقال بأن “القوي هو من ينتصر”. الوزير الذي يقف على رأس سلطة أراضي إسرائيل سكت ولم يوقفه عند حده. الموظفون الكبار اذاً  يفرضون السياسية غير الاجتماعية في الأحياء ويقولون لوزير المالية ولسكان الأحياء بأن هناك انعكاسات أفقية للحلول. في المقابل، تمت المصادقة في الدورة الحالية على السماح لسكان الموشافيم ببناء وحدة سكنية ثالثة لأبنائهم دون أية معارضة من الائتلاف وبدعم مندفع من الموظفين الكبار. على ما يبدو فإن سكان الأحياء، في نظر أعضاء حزب الليكود، ليسوا إلا غباراً بشرياً.

سياسة انتقائية

قصص الحرمان والتمييز بحق القادمين من الدول العربية لم تنحصر اذاً على السنوات الاولى من اقامة دولة إسرائيل. سياسة الأراضي الانتقائية على أساس الأصول الاثنية التي حالت دون أية امكانية للارتقاء الاجتماعي ما زالت قائمة حتى اليوم. قصة الأحياء هي مثال معاصر كلاسيكي للآلية التي يتم من خلالها اضعاف الضعفاء: ففي واقع عادل كان من المفترض بأن يصبح سكان الأحياء أصحاب البيوت والأراضي. عوضاً عن ذلك، الصق بهم نعت الغزاة والخارجين عن القانون- كما يليق بالشرقيين، العرب والأثيوبيين في الدولة. في المقابل، لم تغزو الأقلية الأشكنازية في بلادنا أية أراضي حضرية أو زراعية ولم تخالف القوانين المحسنة التي شرعت فقط من أجلها: هم ملح الأرض، صهيونيون، رياديون ودعونا لا ننسى- أصحاب امتيازات.

גבעת עמל
اخلاء جفعات عمال (تصوير: اكتيفستيلز)

سياسة اضعاف الضعفاء تنبع بأساسها من عدم تطبيق المساواة في الحقوق لكافة المواطنين. الخطاب الجماهيري العقيم الذي يركز على اليسار واليمين يضعف الحراك الشرقي ويخدم الجهاز السياسي الذي يعمل على تعميق الفجوات الاجتماعية في كافة القضايا المدنية. حكومات إسرائيل، من اليسار واليمين على حد سواء، جبت ثمناً باهظاً من سكان الأحياء الشرقيين الذين أرسلوا للسكن في المدن المركزية وبلدات التطوير. حكم الحرمان والاقتلاع من البيت من ناحيتهم هو كالحكم عليهم بالموت.

منذ سنوات الخمسينات وحتى انقلاب 77، جاء رئيس حركة “حيروت” مناحيم بيغن إلى الأحياء غير المنظمة وألقى بخطابات نارية عن العدل الاجتماعي منادياً بتغيير الحكم والتصويت للحركة القومية. بحسب أقواله، فقد قدم سكان الأحياء للعصابات السرية مقاتلين أبطال وهم فخورون الآن بحركة “حيروت”. عند صعوده الى الحكم، لم يتم تنظيم حقوقهم على الأراضي ولكنهم “حظوا” بقانون ترميم الأحياء.

أما اليوم فرئيس حركة “الليكود”، أي رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، فلم يأتي و\أو يعبر عن رأيه و\أو يعمل على حل قضية الأحياء غير المنظمة. في المقابل، فقد سمعت آرائه في كل مكان حول اخلاء سكان المستوطنات اثر قرار محكمة العدل العليا حتى أنه سمح بتشريع قانون التسوية على الرغم من معارضة المستشار القضائي للحكومة.

على مواطني إسرائيل المحرومين من حقوقهم الطبيعية أن يطبقوا مقولة فوكو التي تنص على التالي:

“هناك دائماً قوة قمعية ومترصدة ولذلك هناك دائماُ امكانية للمقاومة. التنشئة والتوقعات الاجتماعية تقوم بتصميمنا ولكن بالإمكان تحدي الصورة التي تخلقها المنظومة والتي تصف ماذا يعني التصرف بشكل لائق. بإمكاننا أن نتدخل في السيرورة وأن نصمم أنفسنا من خلال فهم العمليات التي تنطوي عليها علاقات القوة والرقابة الدائمة، وبأن نكون خلاقين في مهمة بناء واستعادة الذات الشخصية، وهنا تكمن امكانية تحقيق الحرية”.

حان الوقت لتوحيد النضالات. حان الوقت للتظاهر يومياً مقابل بيوت أعضاء الكنيست والموظفين عديمي القلب والمطالبة بالمساواة في الحقوق على الأراضي بشكل فوري، وعدم الاكتفاء بسياسة الفتات. بالإمكان التخمين بأن التوحيد المرجو لن يخرج إلى حيز التنفيذ وبأن سياسة الاخلاء ستستمر حتى اخلاء آخر السكان دون التوصل الى تسوية. لهذا، على سكان الأحياء وكافة المجموعات المجردة من انسانيتها بشكل عنيف من قبل النظام بأن تتبنى نهج الرفض المدني، كعدم الخدمة في الجيش و\او في قوات الاحتياط (على غرار اعلان الدروز الذي تلى قانون القومية) والتفكير، في أشد الحالات،  في التنازل عن المواطنة الإسرائيلية نظراً لكوننا مهجرين في أرضنا. أما أصحاب الصلاحيات الذين ساهموا في تنفيذ الجرائم بحق سكان الأحياء في المدن وبلدات التطوير، منذ اقامة الدولة وحتى يومنا هذا، فأتمنى لهم: “يخرب بيتكم”.

الكاتب هو ممثل السكان في حي الساعة بيافا.

גבעת עמל2
جفعات عمال في الماضي، تاريخ غير معروف (الصورة منقولة عن صفحة الحراك).

 

 

المزيد:

“التوزيع أم التمييز السكاني؟”، نوعا باسل وسي بربي.

“التوزيع غير العادل: المستوطنات الدينية أولى من اوفاكيم!”، بن موشيه.

 

التعليقات

 

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.