"لست مستعداً لأن أبقى فقيراً"

نتنياهو يتجول في العالم ويحكي كم نحن أغنياء وأقوياء. كل هذه الأموال تذهب للكراهية وللحرب بدل الرفاه والأمل. كم من الثكل نستطيع أن نتحمل بعد؟ وكم من الحروب وبرك الدم؟ مقابلة مع دافيد مزراحي قائد حراك السترات الصفراء في إسرائيل.
خاص باللسعة

 

في طريقه الى العفولة لتقديم محاضرة أمام 40 فتى وفتاة، أجرينا هذا الحديث القصير مع دافيد مزراحي، القائد غير الرسمي لاحتجاج السترات الصفراء في البلاد. مزراحي (30 عام) يتنقل في أنحاء البلاد ويحكي للفتية ولكل من يدعوه قصته الشخصية التي حظيت بأصداء واسعة: ولد كبر في بيئة فقيرة في القدس، أصبح ناشطاً فعالاً في “لا فاميليا” (منظمة عنصرية لمشجعي فريق كرة القدم “بيتار القدس”) ومع الأيام هجرها هي وقيمها وأصبح ناشطاً اجتماعياً.

رغم أنه راضي عن التغييرات التي طرأت منذ بداية الاحتجاج (شركة “اوسم” تراجعت عن نيتها رفع الأسعار أما شركة الكهرباء فأعلنت بأن أسعار الكهرباء سترتفع ب- 2.9% فقط وليس ب- 8% كما كان مقرراً) ويعزوها لنشاط السترات الصفراء إلا أنه يعي بأنه ما زال أمامه الكثير من العمل. “الحضور في الشارع ليس كافياً بعد ولكننا لن نرفع أيدينا. سنواصل القيام بنشاطات عبر الشبكة وفي الميدان الذي يشهد غلياناً. لم نأتي لأسبوع واحد ولا لكي نحارب على “البمبا” انما على الحق في الحياة. أتوقع من الناس بأن تستيقظ لأن الأمور سوف تنفجر”. في أعقاب الاعلان عن فض الكنيست وإجراء انتخابات في نيسان المقبل، ينوون في السترات الصفراء بأن يصعدوا من لهجتهم: “ندعو كافة الأحزاب للإعلان بشكل رسمي وملزم بأنها ستقوم بمعالجة مشكلة غلاء المعيشة الخطيرة وإلا فسنصل الى مؤتمراتهم ونعمل على فضها”.

מחאת-האפודים
“حكومات اسرائيل تعتمد على هذا بالضبط، على كوننا مفرقين وضعفاء”. في الصورة: دافيد مزراحي خلال احتجاج السترات الصفراء في تل أبيب 23.12.2018.

 

كم من الأشخاص معك؟ في المظاهرة الأخيرة شاركت بضعة مئات فقط.

“الظروف مهيأة والزخم آخذ بالتشكل. لدينا صفحة فيسبوك فعالة تجمع المزيد والمزيد من المؤيدين، بضعة آلاف قاموا بتغيير صورتهم الشخصية، اتحاد الطلاب من ورائنا ونحن نبني الميدان الآن. حتى ال-500 شخص الذين شاركوا في المظاهرة بنهاية الأسبوع الماضي يشكلون بداية موفقة. ليس من السهل اخراج الناس من البيوت للمظاهرات خاصة وأن غالبية الناس الذين نمثلهم هم أناس شفافين من اسرائيل الشفافة. الناس يقولون لي بأنهم فقدوا الأمل، هم يائسون”.

“عندما سمعت عن الموجة المتوقعة لغلاء الأسعار، في الكهرباء، الماء، منتوجات التغذية- فهمت كيف تعمل سياسة “فرق تسد” التي ينتهجونها هنا منذ سنوات والتي تستمر في اضعافنا. فالغلاء هذا يمس بالطبقة الوسطى، بالمسنين، بالامهات الوحيدات، بذوي الاعاقات. حكومات اسرائيل تعتمد على هذا بالضبط، على كوننا مفرقين وضعفاء. ولكن ما يجمعنا عملياً هو أكبر مما يفرقنا. لسنوات لم نفهم بأن القصة هي مسألة سياسة وليست قصة صغيرة لهذه المجموعة أو تلك”.

ما الفرق بين الحراك الحالي وبين الحراك الذي اشتعل في 2011 واختنق عملياً بصوت خافت؟

“من قاد الاحتجاجات في 2011 كانوا أناساً بيض وأصحاب امتيازات. اليوم الوضع يختلف. الحديث عن الخبز والماء، عن سؤال كيف أستطيع أن أعيش بكرامة من الحد الأدنى للأجور، أن أدفع ايجار البيت، الكهرباء، الماء، أن أشتري طعاماً. أنا أمثل الكثير من الناس الذين يستصعبون الوصول لأكثر حد أساسي من المعيشة الممكنة. نحن نعمل لكي يفهم الناس بأن الحديث ليس عن قضاء وقدر ولا عن كارثة طبيعية، بالإمكان التغيير ومن الممكن بأن تكون الأوضاع هنا مختلفة. في المظاهرة التي جرت بنهاية الأسبوع وقفت معي على المنصة فتاة ابنة 15 عاماً، امرأة مسنة وصاحب اعاقة، أنا نفسي ابن لوالدين أصحاب اعاقة- نحن نتحدث هنا عن أكثر الطبقات ضعفاً”.

ولكن بالذات لأن الحديث عن أكثر الطبقات ضعفاً، من الممكن بأن يستصعب هذا الحراك حشد الدعم كما رأينا في سنوات سابقة.

“الطبقات الأضعف هي التي تقود الحراك ولكن غلاء المعيشة يمس عملياً بالجميع- اليساريين، اليمينيين، العرب، اليهود، العلمانيين، المتدينين. أدعو الجميع بأن يتركوا “الأنا” جانباً وبأن يأتوا ليحاربوا من أجل حياتنا جميعاً. الحراك سيكون مركزاً وناجعاً. انظروا كيف تراجعت شركة “أوسم” بعد 72 ساعة فقط من اعلاننا عن مقاطعتها. سنواصل الاعلان عن عمليات مقاطعة كهذه. نحن نقوم بعمل ميداني جدي جداً وسينضم لنا المزيد من الناس عندما يفهموا بأن مسألة الخدمات الاجتماعية تعني الجميع. كم من الوقت يجب أن ننتظر الطبيب؟ لماذا يعيش المسنون في أروقة المستشفيات؟ لماذا تتخلف اسرائيل وراء كافة دول ال- OECD في التربية وفي الفجوات بين الفقراء والأغنياء؟ هذا الحراك يجب أن يحاكي الجميع. في نهاية الأسبوع، كان بين جمهور المظاهرة أشكناز، شرقيون، متدينون، علمانيون، وما يوحدنا هو اهتمامنا وكون الحياة هنا غالية. كيف يعقل بأننا نسمح برفع اسعار الكهرباء ب-8% خلال الشتاء بالذات مما يمس بأضعف الطبقات التي تتخبط ان كان عليها تدفئة البيت أم لا؟”

اعادة الفهود السود

يعي مزراحي بأن الجمهور لامبالي قليلاً وهو يوعز ذلك لليأس، لعدم القدرة الاقتصادية-الاجتماعية للخروج للمظاهرات وأيضاً لسياسة  “فرق تسد” التي تكرسها الحكومة وسط الجمهور. لو خرج 10،000 شخص في نهاية الأسبوع، يقول، لتحدثوا معنا حتى عن صفقات الغاز. ويوضح بأنه كانت هناك محاولات لإسكات الاحتجاج: “لماذا لا يتحدثون عما جرى في المظاهرة الاولى عندما ضربونا بوحشية وألقوا بي 15 ساعة في المعتقل؟ مباشرةً يقولون: هؤلاء يساريون، خونة، وهكذا ينزعون الشرعية عن الحراك”.

لماذا تكون الامكانية الوحيدة أمام الأولاد الذي يخلقون في بيئة فقيرة بأن يكونوا عمالاً كادحين؟ وبأن يزج بهم في حلقات الفقر- هم وأولادهم وأولاد أولادهم؟ كل رجل وامرأة يستحقون الحصول على فرص متساوية، على فرصة لاختيار حياته او حياتها.

ولكن مزراحي جاهز لخوض نضال طويل الأمد، وبينما يصعد الباص في المحطة المركزية بالقدس بطريقه الى العفوله، يعلن بأنه، كجيل ثالث من الفقر، ليس مستعداً لأن يبقى فقيراً. “علينا أن نقدم حياتنا من اجل هذا النضال- فإما أن نعيش بكرامة وإما أن نموت بلا كرامة. لقد ولدت لوالدين فقيرين، جدي كان فقيراً كذلك. لم أولد لأكون شفافاً. السلطات كذبت على والدي، أعطتهم ليرة ونصف وأسكتتهم. ولكنني من جيل آخر وأنا أعرف حقوقي. أية خيار كان لدي عندما كنت طفلاً؟ لم يكن لدي خيار بتاتاً. عشت في فقر، بلا تربية، بلا توجيه، بلا أمل، في فترة الانتفاضة الثانية في القدس. سرعان ما بلعتني “لا فاميليا” كفتى وسحبت الى هذه الأماكن التي أفهم اليوم بأنها سلبية. لأن الفقر هو ملك اللا خيار. الفقر يؤدي الى الجهل، الفقر يؤدي الى العنصرية، الى الهلع، الكراهية واليأس”.

عندما نسأله عن الدمار الذي زرعته هنا سياسية اليمين الاقتصادي على مدى عقود، يجيب مزراحي بأن الهدف المركزي للحراك الآن يجب أن يكون اعادة دولة الرفاه. “أنا مؤيد ليكود سابق وأعرف جيداً ما هي الأساسات الخمسة: الغذاء، المسكن، الملبس، التعليم والطب. أين اختفت هذه؟ الليكود خان نفسه وهو يمس بهذه القيم بالتحديد وينزل ضرباته عل الضواحي الاجتماعية والجغرافية مرة تلو الأخرى. مع ذلك، فالناس تصوت له مرة تلو الأخرى- أية مازوخية هذه”.

لماذا يستمر الناس بالتصويت لليكود برأيك؟

“الناس يستمرون في التصويت لهم لأن الليكود مختص بالتخويف. هم يخيفون الناس ويعيثون في عقولهم ب”نحن وهم”، حروب، تهييج، تخويف، هذه سياسة خوف بدل سياسة حب. اسرائيل أصبحت ابنة 70 عام وقد ولدت هنا ثلاثة أجيال، نتنياهو يتجول في العالم ويحكي كم نحن أغنياء وأقوياء. هناك الكثير من الأموال هنا التي لا توزع بطريقة صحيحة. كل الأموال تذهب للكراهية وللحرب بدل الرفاه والأمل. كم من الثكل نستطيع أن نتحمل بعد؟ وكم من الحروب وبرك الدم؟ متى سيفهمون من يجلسون فوق بأننا غير معنيون بهذا؟ لو أنهم يستثمرون كل هذه الأموال في الرفاه والتربية بدل الكراهية والحروب لبدا كل شيء مختلفاً. لقد كنت ولداً يائساً وأعرف بأن اليأس يؤدي الى أماكن مدمرة. فمن الممكن بأن ترتبط بمنظمة ارهابية عندما تكون يائساً. اذا علمنا الناس بأن تحب بدل أن تكره من الممكن بأن تكون لدينا جنة هنا”.

“لهذا أسافر في هذا اليوم الماطر بثلاثة باصات لأصل الى العفولة وأتحدث الى الفتية. سوف ألتقي بفتية وفتيات من عائلات كادحة لأطلب منهم بألا يتخذوا الخيارات التي اتخذتها عندما كنت فتى لم يحصل على أي توجيه. لا شك لدي بأنه لو تحدثوا الي هكذا، لو جاء أحدهم وأعطاني أملاً، لكنت قد كبرت بطريقة مختلفة. هذا هدفي وهذه رسالتي- أن أعطي الفتية الأدوات التي لم أحصل عليها. أنا أنفعل في كل مرة من جديد، ليتني أستطيع احتضان كل الفتية الضائعين. أنا أحكي لهم قصتي الشخصية، وكيف تحولت من شخص يؤمن بالكراهية المجانية وبالعنصرية لشخص يؤمن بالتضامن وبالمسؤولة المتبادلة. أؤمن بالتربية وبأنه لو حصل الجميع على فرص متساوية لكانت السجون خالية ولكانت أقسام الاضطرابات النفسية خالية”.

“ألا تخشى في حال نجح هذا الحراك بالنهوض بأن تجد السلطات طريقة لإخماده او بلعه كما حدث في نهاية المطاف مع الفهود السود ومع احتجاجات 2011؟

“معقول، فقد جعلونا نصبح مطيعين، بأن نطيع الأوامر ونستمر في تحمل هذا العبء غير المنطقي. اتصل بي ألف شخص في الأسبوع الأخير وقالوا لي “لا نستطيع الخروج من البيت، أنت صوتنا”. يتصل بي أناس من ديمونا، سديروت، هناك صحوة في كل أنحاء البلاد. هذا الزخم قبل الانتخابات قد يصبح ذا أهمية، لقد شبعنا من الوعود ولم نعد نصدق الكلمات الجميلة، نريد أن نرى تغييراً حقيقياً: تغيير في الاستثمار في التربية، الصحة، بأن يحاربوا غلاء الأسعار. هناك اموال في دولة إسرائيل. نتنياهو يتحدث عن النمو والنمو، ولكن من الذي يستمتع بهذا النمو؟ الأمهات الوحيدات؟ أصحاب الاعاقة؟ المسنين؟ أين الأموال؟ واذا كان هناك نمو بهذه الدرجة فلماذا يتأوه معظم الناس وينهون الشهر بصعوية؟ الطبقة الوسطى تتآكل كذلك وفي النهاية لن تبقى هنا الى طبقة ضخمة من الفقراء وطبقة دقيقة من الأغنياء. منذ الآن هناك فجوات اقتصادية مخيفة بين الناس”.

هل اقترحوا عليك الانضمام لأحد الأحزاب؟

“لا، وأنا لست معنياً بهذا المضمار. حصلت على منحة تعليمية من شركة “اوربوتك” بعد أن سمعوني ألقي محاضرة. سوف أتعلم علوم سياسية وتربية، أطور نفسي وقدراتي على قيادة الحراك المدني. أنا اؤمن بأن التربية والتعليم هي المفتاح. في الرملة مثلاُ فقط 2% يصلون التعليم العالي. يخلقون هنا العبيد، أجيال من العبيد. أنا أيضاً، عندما كنت فتى، اتجهت نحو العبودية. ابي رحمه الله قال لي “أذهب لتعمل في شبكة أغذية”. ولكن لماذا تكون الامكانية الوحيدة أمام الأولاد الذي يخلقون في بيئة فقيرة بأن يكونوا عمالاً كادحين؟ وبأن يزج بهم في حلقات الفقر- هم وأولادهم وأولاد أولادهم؟ كل رجل وامرأة يستحقون الحصول على فرص متساوية، على فرصة لاختيار حياته او حياتها. لا أحد يستحق بأن يكون يائساً بسبب الظروف التي ولد فيها. هناك الكثير من الأموال والموارد في إسرائيل ولكنها لا توزع بطريقة صحيحة. أنا اقول دائماً- احذروا أولاد الفقراء. هذه النار التي تشتعل بي اليوم هي ليست جوعاً للخبز فقط انما جوعاً للعدالة”.

التعليقات

 

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.