هل ثمة تاريخ لليهود العرب؟
افتتح في تشرين الثاني\نوفمبر 2021 في “معهد العالم العربي” في باريس معرض هو الأول من نوعه يتناول تاريخ وتراث اليهود العرب الثقافي. أثار المعرض خلافات شادة بين مجموعات دعت لمقاطعته وأخرى ردت على هذه النداءات. دفعت هذه الخلافات سيرورة مثيرة كان محورها العلني محاولة تبرير الدعوة إلى مقاطعة المعرض. كلما تطورت هذه المحاولات، بدأت تشمل مجموعة واسعة من الأسئلة المتعلقة باليهود العرب وتاريخهم ومكانتهم اليوم، موضحة أن الأسئلة المتعلقة باليهود العرب مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقضية النكبة الفلسطينية ومسألة “التطبيع” بين دولة إسرائيل وعدد متزايد من الدول العربية، وأنها متجسدة أساسًا في تجاهل قمع الشعب الفلسطيني وانتهاك حقوقه.
كانت ذروة هذه السيرورة ولادة ورقة وقّع عليها كبار المثقفين في العالم العربي كشفت فشلًا معينًا في كل ما يتعلق بمحور النقاش المخفي وسؤال واحد لا يتعلق بالحاضر، بل بالماضي: ما هو موقف النخب المثقفة العربية المعاصرة من تاريخ العرب الذي يسبق قيام دولة إسرائيل ومن تاريخ اليهود العرب الإسرائيلي الداخلي؟، وهو سؤال طالما كان مخفيًا عن الأنظار. في حين أن الأسئلة المتعلقة بقضية فلسطين واضحة تمامًا وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحاضر – فإن مسألة مكانة وثقافة اليهود العرب والشرقيين لا تقتصر على تاريخ فلسطين بين النهر والبحر بل أنها متعلقة بتاريخ الشرق الأوسط بأكمله. اكتشفنا على هذا المستوى فشل الجدل الشامل حول المعرض في باريس، ونود التعليق عليه هنا.
نود أن نبدأ المقال بتصريح: لن نتطرق في هذا المقال للمعرض نفسه ولن نتناول ما إذا كان يجب مقاطعته أم لا، ولن نتناول السؤال عما إذا كان يعتبر “تطبيعًا” أم لا. نود أن نتناول في مقالنا الورقة التي كتبت في أعقاب الدعوة لمقاطعة المعرض – ورقة ذات أهمية حاسمة بنظرنا. ينتمي مئات الموقعات والموقعين على الورقة للنخبة الفكرية والثقافية العربية ممن يعملون في الشرق الأوسط و\أو أوروبا وأمريكا. سبق وتعاونا في الماضي مع بعض من كاتبات وكاتبي الورقة وموقعاتها وموقعيها، ونأمل أن يستمر ذلك في المستقبل بالطبع. بل أكثر من ذلك، قام العديد من الموقعات والموقعين على الورقة بذلك بسبب قربهم\ن وإدراكهم\ن لتاريخ اليهود العرب الذي شمل حوالي 750 ألف شخص حتى أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، ويشمل اليوم حياة ملايين الشرقيين وأبنائهم. لم يكن التجاهل هو ما ولد هذه الورقة، بل العكس: وعي عميق وحميم لا يسعنا، كشرقيين، سوى الاعتزاز به. غالبًا ما يؤكد نشطاء حركة المقاطعة (“من الداخل” أيضًا) أنها لا تعارض إمكانية الحوار، بل على العكس تمامًا: أن لديها القدرة على خلق “مجالات حوار جديدة”. إذا كان هذا هو الأمر بالفعل، نفهم ورقة المثقفين\ات العرب على أنها دعوة لحوار شرقي-عربى خال من أي وساطة أوروبية (يهودية أو غير يهودية).
بوستر المعرض في باريس
ما معنى الورقة التي نشير إليها هنا إذًا؟ فهي ليست ثمرة بحث تاريخي متعمق ولا تحاول أن تظهر نفسها على أنها كذلك. ولكنها بمثابة محاولة لصياغة موقف عربي مهيمن فيما يتعلق باليهود العرب وعلاقاتهم الشخصية والجماعية بالتاريخ العربي ما قبل العام 1948 و– “الإسرائيلية الداخلية” بعد العام 1948. ولدت الورقة بداية في سياق توسيع علاقات الشرقيين واليهود العرب، بما في ذلك الموسيقية نيطع الكيام وفرقتها (الدولية)، مع أخواتهم وإخوانهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط. تشير هذه الحقيقة إلى أن كاتبات وكاتبي الورقة شعروا بالحاجة إلى صياغة نوع من الحكم، أو العقيدة، فيما يتعلق بالتاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي لليهود العرب. ليس من المبالغ به القول، بهذا المعنى، أن لهذه الورقة أهمية تاريخية: لسنا على دراية بأي محاولة عربية جماعية سابقة لمثل هذا الشيء، خلال القرن الحادي والعشرين، على وجه الخصوص، وربما قبل ذلك حتى.
تتناول الورقة حياة ملايين اليهود الذين يعيشون في جميع أنحاء العالم وقد تم نشرها باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، لكن ليس بالعبرية، وهي لغة الغالبية العظمى من اليهود العرب وأحفادهم الشرقيين اليوم. يأتي السؤال هنا عما إذا كان واضعو الورقة يؤمنون بتواجد حيز لإدارة أي حوار مباشر مع اليهود العرب (خارج الجامعات والمعاهد والمتاحف) الذين أدى بهم تطورهم التاريخي إلى بناء حياتهم المادية في فلسطين\إسرائيل. يمكننا قول أن عدد اليهود العرب الذين تبنوا الورقة صغير نسبيًا (حوالي ستة منهم). يثير هذا تساؤلاً عن التمثيل اللائق في الورقة: في حين أن كاتبيها يعرّفون اليهود العرب على أنهم ضحايا (الصهيونية الأوروبية أو في وصفها الجديد، “الصهيونية العالمية”) – فهم لا يسمعون صوتهم مباشرةً، بل يتحدثون نيابة عنهم. عندما صاغ إدوارد سعيد عبارة “Permission to Narrate” في العام 1984، لم يكن يقصد أن تستبعد أطروحته منها – ومن من تشمله – يهود آسيا وأفريقيا. نسعى لذلك للتفكير ومعارضة ادعاء الورقة لتمثيل اليهود الشرقيين، وهو ما نقوم به بالضبط فيما يتعلق بتمثيل الشرقيين من قبل الأشكناز، أو فيما يتعلق بتمثيل الفلسطينيين من قبل الإسرائيليين أو النساء من قبل الرجال. ما تدعي هذه الورقة القيام به غير لائق في نظرنا، حتى لو لم يكن من الصعب فهم المقاصد السياسية من وراءه.
المبالغة بقوة الصهيونة الأشكنازية
بالنسبة لمحتوى الورقة، نود التطرق إلى فقرة واحدة منها قد تكون الأكثر مركزية فيها:
إسرائيل، بالتنسيق مع الحركة الصهيونية العالمية، لم تكتفِ بتهجير معظم الشعب الفلسطيني الأصلاني واستعمار أرضه وأجزاء من تراثه وثقافته العربية، بل أيضاً استحوذت على المُكوّن اليهودي في الثقافة العربية فحاولت صَهْيَنَتْه وأَسْرَلَته، تمهيدًا لانتزاعه من جذوره الأصيلة وتوظيفه لخدمة مشروعها الاستعماري في المنطقة. إن ثقافة اليهود العرب هي جزء أصيل من الثقافة العربية، وعملية فصلها عن جذورها هي محاولة لتدمير جزء من التاريخ العربي والذاكرة العربية.
من المفارقة إلى حد ما أن هذه الفقرة، في بنيتها والمنطق المتجسد فيها، تذكرنا بـ “الأحكام التاريخية” التي أصدرتها دولة إسرائيل الصهيونية على مر السنين في سعيها للاستحواذ على تاريخ اليهود العرب وتمثيلهم في العالم. للتذكير: اعتادت إسرائيل اختزال تاريخ اليهود العرب إلى مستويين: أحدهما يسلط الضوء على “شوق اليهود العرب إلى صهيون” والآخر يسلط الضوء على الاضطهاد الذي تعرضوا له في أوطانهم، خاصة في السنوات ما بين نشر تقرير لجنة بيل في العام 1937 وترحيلهم (خاصة في خمسينيات القرن الماضي). يمحو هذا النهج الصهيوني، في كلتا الحالتين، التاريخ متعدد الأبعاد لجميع يهود الشرق الأوسط، ويجعل منه أمرًا سطحيًا يستغله لبناء سردية مبتذلة، مجندة ومبسطة ومهينة، لأهداف سياسية دعائية محض. ذروة هذه العملية الإسرائيلية\الصهيونية كانت ظهور خطاب “النكبة اليهودية”، الذي يتمثل هدفه الديماغوجي والوحشي بخلق تناسق (وهمي) بين النكبة الفلسطينية ونتائجها الدائمة من جهة، واليهود العرب الذين تعرّفهم الصهيونية كلاجئين، من جهة أخرى.
هاجمنا، كشرقيات وشرقيين، هذا الخطاب منذ العام 1997 على الأقل، حيث كشفنا منذئذ، بشكل منهجي ومستمر وعلني، في الكتابة وفي وسائل الإعلام، الإنكار الذي يعتمد عليه هذا الخطاب باللغة العبرية (1999; 2003; 2005; و-2013) وباللغة العربية (1998; و-1999) وباللغة الإنجليزية (1998 ;2005; 2006: 2007; 2008; 2008; 2008; 2008; 2011; 2012; و-2015).
ومع ذلك، يجدر بنا التوضيح مرة أخرى: نرفض بشكل قاطع المحاولة الحمقاء لتعميق فرضية “التبادل السكاني” بين اليهود العرب واللاجئين الفلسطينيين (والتي حاول عدد من المفكرين الصهاينة الترويج لها منذ الأربعينيات). لهذا السبب بالذات، نتماهى مع الأسباب التي دفعت بكاتبي الفقرة المقتبسة عن الورقة أعلاه، لأننا من أوائل الشرقيين الذين انتقدوا هذه السردية بشكل متعمق ومفصل ومنهجي منذ حوالي ثلاثة عقود. في الوقت نفسه، ليس هناك طريقة سوى قول هذا بصراحة مباشرة: في ادعاءهم المتهور إلى حد ما لتمثيل تاريخهم للعالم ولليهود العرب، يرسم الكتاب والموقعون على الورقة صورة مطابقة جدًا للصورة التي رسمتها دولة إسرائيل فيما يتعلق بتاريخ اليهود العرب.
كرّس الناقدون الشرقيون سنوات عديدة للبحث والأكتيفيزم الاجتماعي-والسياسي لإضعاف الحجج الصهيونية. شاركنا بهذا النشاط انطلاقا من حساسيتنا تجاه عدم الدقة التاريخية ومن باب فهم أن محوري “الهولوكوست” و– “النكبة“ الذي يدور حولهما النقاش بين الصهاينة والعرب يحجبان المسألة الشرقية. قدم العشرات من الشرقيين مؤخرًا “عريضة شرقية” للمحكمة العليا ضد قانون الجنسية، وهي التماس انضموا به لأكبر المنظمات الفلسطينية في إسرائيل. طالما ادعى الشرقيون المستقلون أن على الرغم من أن “التوق الديني والثقافي إلى صهيون” كان بالفعل جزءًا لا يتجزأ من طقوس اليهود العرب منذ الأسر البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، إلا أن معظمهم كانوا مع ذلك غير مبالين بالصهيونية الأوروبية، في أحسن الأحوال – ومعادين لها، في أحسن أحسن الأحوال. في الوقت نفسه، سلط عمل الشرقيين السياسي والبحثي الضوء على مستوى اندماج اليهود العرب العالي في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية في بلدان منشأهم التي عاشوا فيها حياتهم كمجتمع أقلية صغيرة وعتيقة. نعلن، منذ عقود، عن معارضتنا للمحاولة الصهيونية لفرض نمط التجربة التاريخية ليهود أوروبا والعالم المسيحي على يهود الشرق الأوسط بشكل متسرع ومتذرع. نعيد التأكيد على أن من الممنوع منعًا باتًا اختزال تاريخ اليهود الشرقيين لتاريخ من الاضطهاد. ليست هذه هي الحقيقة الكاملة فحسب، بل من الواضح لنا أيضًا أن دولة إسرائيل تستخدم هذا التاريخ الدعائي السخيف والمخزي لتبرير النكبة والأذى المستمر للشعب الفلسطيني.
ومع ذلك، لا يمكن ترجمة المعارضة الصارمة للاستخدام الصهيوني لهذا التاريخ إلى تجاهل حقيقة بسيطة للغاية: الاضطهاد العنيف، بما في ذلك الاغتصاب والقتل والمذابح الذي تعرض لها اليهود في الدول العربية هو جزء من تاريخهم. الدول العربية مسؤولة، على المستوى الحكومي والاجتماعي، عن هذه الظواهر، سواء قبل ظهور الصهيونية الأوروبية أو بعد دخولها لفلسطين العثمانية. مثلما لدينا التزام تاريخي بدحض السردية الصهيونية عن صهيونية اليهود العرب “الطبيعية”، نحن مسؤولون عن تذكر المضطهدين في الدول العربية. نود أن نؤكد أن المعارضة الحازمة للعنصرية الصهيونية تجاه غير الأوروبيين (اليهود وغير اليهود) – وكذلك معارضتنا لمحاولة إسرائيل فرض التاريخ المبتذل على اليهود العرب – هي الأساس لالتزامنا بتعزيز موقف ضد الصهيونية. يعني هذا الموقف أن نتذكر ونتحدث بصدق، بلا تراجع أو التفافات، عن الفصول العنصرية في التاريخ العربي الحديث نفسه، وليس في الصهيونية فقط. اليسار العربي المناهض للعنصرية ملتزم، بفهمنا له، بالقيام بالشيء نفسه في أي وقت وفي أي مكان وفي أي ورقة.
حدثت المضايقات والعنف ضد لأقلية اليهودية بدرجات متفاوتة في تسع دول عربية، قبل وبعد إنشاء دولة إسرائيل. نذكر، مثلًا، الاعتداءت الجسدية والنفسية وعلى الممتلكات التي حدثت في أوائل القرن العشرين في تازة وفاس (التريتل)، والفرهود (1941) وطرد يهود العراق (في عهد نوري السعيد وسيطرة حزب الاستقلال على المجتمع)، بعد حوالي عشر سنوات، وطرد يهود اليمن في العام 1949، (تحت حكم الإمام أحمد بن يحيى الاستبدادي) ويهود مصر في العام 1956 (في عهد جمال عبد الناصر). من المهم تقليل احتمالية فقدان الذاكرة الجماعي فيما يتعلق بأحداث تدمير الممتلكات والمضايقات والإساءة وقتل أبناء الأقلية اليهودية التي حدثت منذ ثلاثينيات القرن الماضي في الدار البيضاء وبغداد والبصرة وعدن وحلب والقاهرة والإسكندرية وطرابلس (الشرق) أو طرابلس (الغرب) وقسطنطين ووجدة وجرادة والمنامة. من المهم أيضًا أن نتذكر أن الأقليات الأخرى – نذكر هنا أشوريي العراق فقط – عانت من المضايقات أيضًا.
ما يميز حالة الأقلية اليهودية في هذا السياق مقارنة بالأخرى هي مسألة الصهيونية في فلسطين (ليس هناك صهيونية آشورية، قبطية، نسطورية، مارونية، إلخ) وتأثيرها الحاسم على كيفية التذكر، أو الكتابة، الجماعية لهذه الفصول في تاريخ المنطقة. اتهمت الأقلية اليهودية في الكثير من الأحيان بكونها “طابور خامس” صهيوني. كان هذا إدراكًا خاصًا لنمط اجتماعي سياسي عام يُعرَّف بأنه Guilt by Association. أدى الهجوم على اليهود العرب، في سياق مناخ معادي متزايد، في النهاية إلى تعاون مباشر بين الحكومات والنخب العربية ودولة إسرائيل الفتية.
الطرفان مسؤولان معًا عن الرقصة السياسية لإفراغ العالم العربي من الأقليات اليهودية. تلعب الديناميكيات الاجتماعية السياسية الداخلية في المجتمع العربي، بالإضافة إلى تبلور القومية العربية الملموس، دورًا مهمًا وحاسمًا في عملية تحويل ثلثين من كافة اليهود العرب إلى إسرائيليين (مثل نيطع الكيام)، وهي عملية بدأت في العام 1949، عندما نقِل اليهود اليمنيين بشكل جماعي على متن طائرات إلى تل أبيب (مقابل فدية). من المنصف أخلاقيًا أن نتذكر أن قطاعات كبيرة من المجتمعات العربية كانت غير مبالية بتاتًا لخروج اليهود، وكثيرون منهم لم يحزنوا على فقدانهم لممتلكاتهم الخاصة والعامة. هذه اللامبالاة (رغم حقيقة أن الماضي اليهودي ظل حاضرًا-غائبًا في الحاضر العربي لعقود بعد رحيل اليهود) ميزت العالم العربي بأكمله حتى مؤخرًا. قدم مؤرخون نقديون في العراق والمغرب ومصر، في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال، وجهات نظرهم حول موضوع الماضي اليهودي العربي وأهميته بالطريقة التحليلية المطلوبة. إذًا هي ليست مجرد مسألة “التطبيع” المعاصرة.
أين المشكلة إذًا؟ تكمن المشكلة في أن أيًا من هذه العناصر الحاسمة في التاريخ العربي (“ما قبل إسرائيل”) لليهود العرب لم ينجح في شق طريقه إلى الورقة التي كتبها المثقفون العرب عن اليهود العرب والمعرض (ربما الأول على الإطلاق في العالم الغربي) عن تاريخهم. الادعاء القائل أن الصهيونية الأوروبية هي وحدها المسؤولة عن سحق الأقليات اليهودية في تسع دول عربية ليس متحيزة سياسيًا وأيديولوجيًا فحسب، بل هي تتعارض مع التأريخ الشرقي النقدي – بما في ذلك التأريخ الشرقي الذي يتطور من الناحية التحليلية في السنوات الأخيرة في البلدان العربية حيث عاشت أكبر التجمعات اليهودية. هذه مبالغة في القوة المطلقة (المزعومة) لعامل تاريخي واحد (الصهيونية الأشكنازية) تتجاهل نتيجتها عوامل أخرى (في المجتمع والقومية العربية في مختلف البلدان) مسؤوليتها. بهذا المعنى، تميل الورقة المناهضة للمعرض إلى رسم صورة طبق الأصل عن مفهوم “سرقة التاريخ” الذي تحدثت عنه إيلا شوحط في العام 1988 في مواجهة فعل وتأريخ المحي الصهيوني الأشكنازي تجاه اليهود العرب.
بدأ الشرقيون والشرقيات الشبان والشابات في السنوات العشرين الماضية دفع عملية تجديد ثقافتهم\ن اليهودية العربية. المزيد من الشباب والشابات يعرّفون أنفسهم بشكل حازم على أنهم\ن شرقيات\ون و\أو يهود عرب. تخلق هذه الخطوة المثيرة المعارضة إبان عقود من الأيديولوجية الصهيونية التي سعت إلى استئصال العروبة من هؤلاء الشباب وذويهم. تؤدي هذه العملية بطبيعة الحال إلى رغبة الشرقيين بالتواصل مع العرب غير اليهود في بلدانهم الأصلية. يحدث كل هذا حتى لو لم يكن هناك شك في أن هذه العملية لم تجد تعبيرا مرضيا على المستوى السياسي فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني واستمرار قمعه. تبذل دولة إسرائيل وممثلوها ومؤيدوها في العالم (مثل منظمة الدعاية الصهيونية الأشكنازية JIMENA) جهودًا كبيرة لإحباط تسييس عملية التقارب العربي الشرقي في خدمة أهداف الحكومات الإسرائيلية الرسمية.
منحت الحركة الصهيونية الأوروبية للشرقيين دورًا تاريخيًا واحدًا: أن يكونوا ضحايا للعرب. ورقة المعرض في باريس تعطينا دورًا تاريخيًا مشابهًا: أن نكون ضحايا للصهيونية. ومع ذلك، فإن التطورات الإجمالية التي يمكننا وصفها باختصار هنا تتطلب منا أن نعلن بوضوح: اليهود العرب في القرن الحادي والعشرين يرفضون أن يكونوا يهودًا وفقًا للشروط التي فرضتها عليهم الصهيونية الأشكنازية ويرفضون أن يكونوا عربًا وفقًا لما تخصصهم بها مجموعة الموقعين على الورقة، عن قصد أو عن غير قصد.
صرح مفكرون فلسطينيون، مثل إدوارد سعيد وعزمي بشارة منذ التسعينيات بأن “المسألة اليهودية” في أوروبا في القرن التاسع عشر أصبحت “مسألة فلسطين” في القرن العشرين. لكن هذه معادلة ناقصة يكشف النقاش الحالي حول المعرض في باريس نقصها وكل ما تركته شفافًا وممحى: لم تصبح المسألة اليهودية الأوروبية مجرد قضية فلسطينية؛ بل أصبحت مسألة يهود الشرق الأوسط العربي أيضًا. من المهم لذلك أن نتحدث جميعنا، بنات وأبناء الشرق الأوسط، عن مسألة اليهود العرب قبل وبعد عام 1948 في حوار مباشر وعادل وشجاع ومتعمق. يجسد المعرض الرائد في باريس نقطة انطلاق ما لمثل هذا النقاش الحواري. ربما حان الوقت لإجراء “نقاش بين المؤرخين” – عن مسألة الشرقيين هذه المرة.
كاتبو المقال هم محرري الكتاب Modern Middle Eastern Jewish Thought: Writings on Identity, Politics and Culture, 1893-1958 (Brandeis University Press, 2013).
الشرقيون الذين يرغبون في التعليق أو مراجعة أو دعم الموضوعات التي تمت مناقشتها هنا مدعوون لإرسالها إلى: IndependentMizrahiVoice@gmail.com